يومًا بعد يوم يزداد الصراع الداخلي في أمريكا بين التيار الإنجيلي المتطرف الداعم للرئيس ترامب وإسرائيل، والتيار الديمقراطي المحافظ الذي يتشكل من كافة ألوان الطيف من أجناس وعرقيات مختلفة، ما يهدد بحرب أهلية حقيقية بحسب تصريحات الطرفين، خصوصا لو فاز ترامب بفترة رئاسية ثانية. أحد المرشحين الديمقراطيين للكونغرس الأمريكي قال على وسائل التواصل الاجتماعي، إنه سيمارس حقه المنصوص عليه بموجب التعديل الثاني من الدستور الأمريكي والمتعلق بحق المواطنين في حمل السلاح والاحتفاظ به، في حالة إعادة انتخاب الرئيس الجمهوري دونالد ترامب. هذا المرشح ويدعى "ريان فارار"، غضب من التقارير التي أفادت بأن ترامب دعا وزارة العدل إلى تخفيف الحكم القاضي بسجن مستشاره السابق روجر ستون، بعد إدانته بالكذب على الكونجرس، والشهادة الزور، وعرقلة تحقيقات الكونغرس، وفق مجلة Newsweek الأمريكية. وكتب "فارار" تغريدة على موقع تويتر يقول: "إذا أعيد انتخاب ترامب، فسأصبح أحد هؤلاء المتمسكين بتطبيق (التعديل الثاني)، أي حمل السلاح، قائلا: "لم أكن لأعتقد أن يصل الأمر إلى هذه النقطة، لكن المرء يجب أن يكون مستعدا للوقوف في وجه الاستبداد بأي وسيلة، وأنا أدعو كثيرًا من أصدقائي إلى التفكير في اتخاذ إجراءات مماثلة". وأضاف فارار: “أعتقد أن التعديل الثاني من الدستور وُضع في الواقع لكي يتمكن الناس من الوقوف في مواجهة الاستبداد إذا ظهر من جديد بأمريكا، وأنا أعتقد الآن، تحت حكم هذا الرئيس، أننا ربما اقتربنا من أن نصبح تحت حكم استبدادي بدرجة أكبر بكثير مما كان عليه الحال منذ زمن طويل جدا جدا".
من هم الإنجيليون؟ يرجع تاريخ الإنجيليين إلى القرن الثامن عشر، حين كانت أمريكا مجموعة من المستعمرات، لكن هذه الطائفة مرت بتحولات عديدة حتى صارت مشهورة في يومنا هذا بنشاطها السياسي، وانخراط كثير من أتباعها في صفوف «اليمين المسيحي»، وتقاطعها فكريا وسياسيا مع إسرائيل والحركة الصهيونية. ويعتقد كثير من المسيحيين الإنجيليين أن الله وعد الأرض المقدسة لليهود، وأن عودتهم إلى السلطة في جميع أنحاء الأرض ستأتي بالمجيء الثاني للمسيح. وكلمة «إنجيلي» هي الترجمة الشائعة لمصطلح "إيفانجيليكل"(Evangelical) ، ويُقصد بها في الولاياتالمتحدة كل الطوائف المسيحية البروتستانتية التي تميزت عن البروتستانت التقليديين بعدد من المعتقدات، أبرزها إيمانها بمفهوم «الولادة الثانية» أو ولادة الروح، ويُعتقد أنهم يشكلون نحو ربع سكان الولاياتالمتحدة. وقد أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن صفقة القرن بحضور الإنجيليين الأمريكيين الداعمين لإسرائيل، حيث يبدي كثير من الإنجيليين الأمريكيين تضامنهم القوي مع اليمينيين في إسرائيل، ويشعرون بوجود رابطة راسخة في الإنجيل تربطهم بالدولة اليهودية. ويصر المسيحيون منذ فترة طويلة على أن الاعتراف الرسمي بالقدس التي تضم أماكن مقدسة عند المسلمين والمسيحيين واليهود كان يجب أن يحدث منذ مدة في أعقاب القرار الذي اتخذه الكونغرس عام 1995 بنقل السفارة من تل أبيب، واعتبار القدس عاصمة غير مقسمة لإسرائيل. وكان المسيحيون الإنجيليون أصحاب دعمٍ مالي هائل لحملة ترامب في عام 2016، إلى جانب آخرين أرادوا أن يروا بعض العائد على الدعم الذي قدموه خلال الانتخابات الأخيرة، وهو ما انعكس في تلك الخطة المقترحة. ومنهم «أيباك»، مجموعة الضغط القوية المؤيدة لإسرائيل، والتي أيدت بالفعل خطة ترامب المقترحة في الشرق الأوسط، قائلة إنها تقدر جهود الرئيس. ومن بين هؤلاء «المتبرع السخي» شيلدون أديلسون، فقد دفع ملياردير الكازينوهات عشرات الملايين من الدولارات إلى خزائن الجمهوريين، ونحو 20 مليون دولار لحملة ترامب في عام 2016. وكان أديلسون داعما صريحا للخطورة الرامية إلى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، حتى أنه عرض المساعدة في دفع تكاليف سفارة أمريكية جديدة هناك، وقد أخذ يهتف تأييدا لترامب خلال الإعلان عن تفاصيل الخطة الجديدة المقترحة. وأحد القادة الإنجيليين وهو "جويل روزنبرغ" يحمل الجنسيتين الأمريكية والإسرائيلية، التقى الأمير محمد بن سلمان في 2018 (رويترز عن الديوان الملكي السعودي). ويلعب الإنجيليون أدوارًا أخرى داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية، بتقويض أي حراك داخل المجتمعات العربية والإسلامية في أمريكا أو خارجها، ويقوم قادة الإنجيليين بجهود دبلوماسية في عدة بلدان عربية حليفة للولايات المتحدةالأمريكية، فقد التقت وفود منهم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في أكثر من مرة بين عامي 2018 و2019، وكذلك التقوا عبد الفتاح السيسي في القاهرة خلال نوفمبر 2017، وزاروا الإمارات في الفترة ذاتها وما بعدها مرات عدة والتقوا قادتها.
حصان طروادة لليمين المسيحي وتقول الكاتبة في صحيفة نيويورك تايمز، ميشيل جولدبرج، إن ترامب «غير المتدين» يعتبر «حصان طروادة لليمين المسيحي» الذي يريد السيطرة على السياسة الأمريكية. إذ شكّل المسيحيون الأمريكيون الإنجيليون كتلةَ تصويتٍ قوية لدونالد ترامب في عام 2016، بنسبة تصويت له بينهم بلغت نحو 80%، وهم الآن يحشدون كل قوتهم من أجل فوزه في الجولة القادمة من الانتخابات الرئاسية نهاية عام 2020. ويقدم الإنجيليون دعما كبيرا لترامب، بالرغم من أنه لا يمثل شخصية تتمتع بالقيم الأخلاقية أو الدينية التي يدافع عنها المسيحيون المحافظون، فهو رجل مطلق، وارتبط اسمه بفضائح مع ممثلة الأفلام الإباحية "ستورمي دانيالز"، ورغم أنّه «خاطئ»، فإنه يحظى بدعم كبير من الإنجيليين. وتقول القسيسة باولا وايت، المستشارة الروحية الخاصة بالرئيس الأمريكي، في إحدى عظاتها المتلفزة: "حين تقول لا للرئيس ترامب كأنك تقول لا لله". وكانت باولا وايت أوّل امرأة في التاريخ تتلو الصلاة خلال مراسم تنصيب رئيس أمريكي عند أداء ترامب اليمين عام 2017، وفي إحدى عظاتها المنتشرة على الإنترنت، تقول: «حين أطأ أرض البيت الأبيض، فإنّ الله يطأ أرض البيت الأبيض. لديّ كامل الحق والسلطة لأعلن البيت الأبيض أرضا مقدسة، لأنني كنت أقف هناك، وكل مكان أقف فيه هو مكان مقدّس. لكن دور الإنجيليين في تشكيل سياسات ترامب لا تقتصر أسبابه على أن الرئيس يريدهم أن يصوتوا له في انتخابات نوفمبر 2020، إذ هناك أيضا إنجيليون داخل إدارة ترامب ذاتها، مثل نائب الرئيس مايك بينس، ووزير الخارجية مايك بومبيو، الذين يقال إنهم يضغطون لصالح نوعٍ من الدعم لتطلعات إسرائيل التوسعية على النحو المفصّل في الخطة الجديدة. لكن هذه التطلعات تقضي على فكرة وجود دولتين فلسطينية وإسرائيلية ذواتي سيادة جنبًا إلى جنب، كما اعتادت الإدارات الأمريكية السابقة قول إنها تسعى لذلك. وبحسب رويترز فإن حملة ضغط شديدة متواصلة شنها المسيحيون الإنجيليون في الولاياتالمتحدة كان لها دور في دفع ترامب إلى اتخاذ قرار سابق بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، والإعلان عن صفقة القرن الآن.
خطورة الإنجيليين لا يختلف أي من المحللين في الصحف الأمريكية بشأن الدور الخطير الذي يلعبه تيار "اليمين المسيحي الإنجيلي المتطرف" في توجيه سياسات الرئيس الأمريكي ترامب الخارجية والمعادية للإسلام والداعمة لإسرائيل (لأسباب توراتية)، ولكنهم يخشون أن ينتهي الأمر بهؤلاء المتطرفين لإشعال حرب أهلية في أمريكا نفسها، خصوصًا مع محاولات عزل ترامب الذي يرونه نبيهم الحالي وحامي تيار ما يسمى White evangelicalsأو "التيار الانجيلي ذوو البشرة البيضاء". بول دجوبي، الأستاذ المساعد في العلوم السياسية بجامعة دينيسون في جرانفيل بأوهايو والباحث بمعهد أبحاث الديانة العامة (PRRI)، كتب تحليلًا في صحيفة «واشنطن بوست»، يحذر من هذه الحرب الأهلية الداخلية القادمة في أمريكا، بسبب مخاوف اليمين المتطرف في أمريكا، ولا سيما الإنجيليين والمؤمنين بتفوق البيض، الذين يرون أن "الديمقراطيين" والملحدين سوف يجردونهم من حقوقهم، ويرون أن عزل ترامب قد يفقدهم هذه الحقوق. وبحسب "دجوبي"، يعتقد المسيحيون المحافظون أن حقوقهم معرضة للخطر حال عزل الرئيس الأمريكي ترامب، وأنهم يعتقدون أن حريتهم تعتمد على إبقائه وحزبه في السلطة. الأغرب أن "بول دجوبي" حذر من ترويج وسائل الإعلام اليمينية من احتمالية نشوب حرب أهلية في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ودعوتها الإنجيليين إلى تخزين الأسلحة!. ونقل عن أحد هؤلاء المتطرفين (ريك ويليس)، وهو من الإنجيليين المحافظين الذي يروجون لنظريات المؤامرة قوله: "يجبرني الديمقراطيون على تخزين الذخيرة والغذاء والمياه والإمدادات الطبية؛ للدفاع عن أسرتي ومنزلي وكنيستي". ويرى هؤلاء المتطرفون أن مضي مجلس النواب في إجراءات عزل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، هي أول طلقة في «الحرب الأهلية القادمة». وفي خطاب ألقاه أمام «قمة ناخبي القيم Values Voter Summit»، أشار ترامب إلى مثل هذا المعنى، وقال إن الديمقراطيين يعملون على الحد من حقوق المسيحيين، معلنًا مقاومة هذا النهج إذا بقي في السلطة. ويدّعي زعيم الإنجيليين، فرانكلين جراهام، الذي سبق أن دعم الحرب في العراق بدعوى أنها إنجيلية، أن «القوى الشيطانية تضغط من أجل مساءلة شخص تعتقد نسبة كبيرة من الإنجيليين أنه الرئيس المبارك من الرب. ويقول الكاتب: "البروتستانت الإنجيليون البيض يعتقدون أن الملحدين والديمقراطيين سوف يسلبونهم حقوقهم". ويضيف: "أجريت أنا والعالم السياسي ريان بيرج دراسة استقصائية على عينة غير عشوائية (غير احتمالية – Non–Probability) في الفترة من 17 إلى 18 مايو 2019، مكونة من 1010 من البروتستانت الأمريكيين عبر الإنترنت، بالتعاون مع شركة «كوالتريكس» المتخصصة في برمجيات حلول إدارة البيانات والاستطلاعات والتسويق، وشكّل البروتستانت الإنجيليون البيض 60% من العينة التي أجري عليها الاستطلاع". وجاءت النتيجة لتؤكد أن 60% من البروتستانت الإنجيليين البيض يتخوفون من الملحدين، وأن 60% يعتقدون أن الملحدين لن يسمحوا لهم بالتمتع بحقوق وحريات التعديل الأول في الدستور الأمريكي، وسيمنعونهم من تنظيم المسيرات والتعليم والتحدث بحرية، والترشح للوظائف العامة. وبالمثل، اعتقد 58% أن «الديمقراطيين في الكونجرس» أنهم لن يسمحوا لهم بممارسة هذه الحريات إذا ما وصلوا إلى السلطة.
الإنجيليون عماد "الصهيونية المسيحية" والصهيونية المسيحية التي يقودها المذهب الإنجيلي لها أثر جوهري على سياسة الولاياتالمتحدة الخارجية قبل الداخلية. وسبق أن زعم وزير الخارجية الأمريكي "مايكل بومبيو"، في مقابلة مع شبكة الإذاعات المسيحية «سي بي إن CBN News الأمريكية، أن هناك "أسبابًا توراتية" وراء اعتراف ترامب بالجولان والقدس "إسرائيلية". وكان ترامب قد جمع دائرة من المستشارين الإنجيليين للمرة الأولى خلال حملته الانتخابية، وكان هو المرشح المفضل لدى الناخبين الإنجيليين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وغالبية الأمريكيين هم من المهاجرين البريطانيين من أنصار حركة الإصلاح البروتستانتي (الإنجيليين)، وهؤلاء يؤمنون بما يطلق عليه "العصر الألفي السعيد"، القائم على حتمية عودة المسيح المنتظر والدورة الكاملة للتاريخ التي سيعود من خلالها اليهود للأراضي المقدسة في القدس وإقامة الهيكل ودولة بني صهيون، وفق زعمهم. ولأن منفى اليهود الذي عادوا منه للقدس كما يزعمون كان "بابل"، فالبروتستانت الإنجيليون (الأصوليون الأمريكيون)، ومنهم الرئيس السابق بوش الأب والابن، وجراهام، وفالويل، وما يسمى (التحالف المسيحي) الذي يضم قرابة 20 مليون أمريكي، ويعد داعما قويا للحزب الجمهوري (حزب بوش وترامب)، يؤمنون بأن العراق جزء من أراضي "الكتاب المقدس"؛ لأنها الموقع الجغرافي للبابليين السابقين، وأن عودة اليهود للقدس والسيطرة على بابل (العراق) علامات على اكتمال دورة التاريخ (الأيام الأخيرة) أو (نهاية العالم) كما يقول بيلي جراهام. ويؤمن أعضاء هذه المنظمة ب"النظرية الدائرية للتاريخ"، ويعتقدون وفقا لهذه النظرية أنه بعد 2520 سنة، فإن نوعية معينة من الأحداث ستتوالى وتتكرر بانتظام، ومنها عودة اليهود كلهم للقدس والسيطرة على أرض بابل. لذلك فخطورة هذا التيار الديني الأمريكي تتمثل في أنه يقدم مصالح الدولة الصهيونية على أي شيء اعتمادا على ما يسمونه "رؤى إنجيلية" تؤمن بضرورة مساندة اليهود للسيطرة على فلسطين وعودة اليهود كلهم للقدس، وكذلك السيطرة على أرض بابل (العراق) في سياق النظرية الدائرية للتاريخ وفكرة "هرمجدولين". وسبق أن جاء في مقال بمجلة "فورين بوليسي"، أن السياسة الخارجية الأمريكية في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب، تتسم بطابع مسيحي أصولي معاد للتعددية الديمقراطية، وذلك على خلاف كل عهود الرؤساء السابقين في الولاياتالمتحدة. وقال الباحث في الأديان والأستاذ بجامعة ساوث فلوريدا كريستوفر ستروب في مقاله: إن من يرسمون السياسة الخارجية الأمريكية الآن هم من الأصوليين المسيحيين الذين يضمرون حقدا دفينا على الإسلام والمسلمين. ويرى ستروب أن ظاهرة الخوف من الإسلام (المعروفة اصطلاحا بالإسلاموفوبيا) التي يروج لها في منابر الوعظ الديني الكنسي في الغرب عمومًا، والولاياتالمتحدة خصوصا، والأوهام القائمة على رؤى تنذر بنهاية العالم، هي التي تقود السياسة الخارجية الأمريكية اليوم. ويضيف عاملا آخر قال إنه يستحوذ على اهتمام إدارة ترامب، ألا وهو "الخوف من اضمحلال سلطتها ونفوذها وسط المحافظين من المسيحيين البروتستانت البيض". وروى الكاتب كيف أن كبير الكهنة في الكنيسة التي درج على ارتيادها في شبابه بمدينته كارميل في ولاية كاليفورنيا، كان يزرع فيهم كراهية الإسلام والمسلمين. وذكر أن الكاهن- واسمه ماركوس وارنر- كان يقول لهم إن "المسلم الحقيقي هو الذي يريد قتل المسيحيين واليهود"، وكان يشدد على أن هذا هو الاستنتاج الوحيد الذي خلص إليه من قراءة متعمقة للقرآن الكريم. ويؤكد ستروب أن الإسلام الذي نشأ وترعرع على الخوف منه، هو الذي يشكل حاليا سياسة واشنطن الخارجية، حتى إن التصريحات والبيانات التي تشي بالعداء لهذا الدين تمر دون انتقاد في الحياة العامة.