بزغ شعاع الفجر، وعلا صوت الحق، فشق الآفاق، واخترق الأذان، وبلغ القلوب، التى تفاعلت مع النداء، وهرعت إلى رب السماء، ففرحت باللقاء، هى كانت حاضرة بين يديه، لكنها تشتاق أكثر إلى بيته، هناك تدعوه وتناجيه وتبث إليه حاجتها وشكواها ورجاها. كنت حاضرا مع هؤلاء فى صلاة الفجر! فى بيت الله! خير البقاع، وأفضل المراتع، وأسمى الأماكن! جمع طيب (جمهور الفجر) ووقت طيب (صلاة الفجر) ومكان طيب (بيت الله). أقيمت الصلاة فامتثل الحاضرون قول الإمام اعتدلوا..استووا! فتصافحت قلوبهم، وتعانقت أرواحهم، واستوت صفوفهم،، وتوحدت غاياتهم، وبدا الإمام –بارك الله فيه وأحسن الله إليه- بصوته الندى الرائع يلمس الأرواح الظمأى، ويشفى القلوب الجرحى، ويروى النفوس العطشى، بآيات من نبع الإحسان، وكلمات من نور القران، وحروف من فيض الإيمان ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ* قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ* وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [القصص: 71-73]. جمال الصوت، وصفاء النفس، روعة القران، وبركة الزمان، وهدوء المكان.. يشعرك وكأن كلمات الله تتنزل على قلبك الآن! وأنت وحدك المعنى بها دون بنى الإنسان! إنها روح جديدة تأتى مع بزوغ كل فجر جديد!، إنها حياة جديدة تولد مع ميلاد كل يوم جديد! حياة جديدة تمر على القلب المكدود، تجرى فيه الدماء، وتبعث فيه الروح، وتجدد فيه الحياة، وتشعل فيه الأمل! وصل الإمام فى هذه اللوحة البديعة! وهذه الفرحة الكبرى! وهذه الدوحة الوارفة الرائعة من سورة القصص إلى فرحة من نوع آخر ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِى الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص: 76]، وكأن هذا الطاغية ومن على شاكلته نشاز فى هذه اللوحة الغناء! فاستوقفتنى هذه الآية وخاصة نصيحة القوم المغلوبين على أمرهم للطاغية قارون لأنه يفرح بظلمه للبشر! ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص: 76] بقدر ما هى إنذار للظالم من ظلمه! وترهيب للطاغية من طغيانه! إلا أنها لمسة حانية، ونظرة وادعة لكل مظلوم لا يرضى بظلمه على وجه الأرض. أنهيت الصلاة بفضل الله وعدت إلى بيتى بسلامة الله! فأمسكت قلمى وبدأت أسطر ما جال بخاطرى حول هذه الآية! وكأن الفرح أنواع! فرحة النجاح، فرحة الزواج، فرحة الإنجاب، فرحة النجاة، فرحة الطاعة، فرحة العودة بعد طول غياب، كلها أفراح بالحق تبعث الشجون، وتريح المحزون، وتحرك السكون، وتغيظ إبليس الملعون، لكنما هناك فرحة بالباطل، فرحة ممقوتة، فرحة يبغضها الله ويكره صاحبها! هى فرحة من ظلم الفقراء، من خداع البسطاء، من البطش بالضعفاء!. ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص: 76] إن الله لا يحب الفرحين أمثالك يا قارون! إن الله لا يحب الفرحين على شاكلتك.. وهم كل يوم يزدادون! هل دام هذا الفرح الزائف؟ كلا!! هل استمر هذا الظلم الجارف؟ كلا ثم كلا!! بل كل فرح زائف يوما سينكسر، وكل ظلم جارف قريبا سينكشف، وسينتصر العدل على الظلم " فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ"(القصص) وسيرتقى الحق على الباطل "بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ" (الانبياء: 18) "وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ" (الشعراء:227).