صوت الزحام ممزوج ببكاء الرضع يستقبلك على باب العيادة الخارجية بمستشفى "إمبابة العام"، المعروفة بين جموع أهالي المنطقة ب"مستشفى الموظفين"، لترى تجمهر العشرات من المرضى، رضع مسنودة رؤسهم على أكتاف أمهاتهن، وصبية وفتيات أيديهم تعانق إيادي أبائهم، وعجائز يتحركون على عصيهم الخشبية، وجميعهم اصطفوا على شباك تطل منه سيدة منتقبة تحصل منهم جنيهين مقابل تذكرة عبورهم لحجرة الكشف، مشهد يتكرر يوميا في الثامنة صباحا وحتى الثانية بعد الظهر، ليس في تلك المستشفى وحدها، بل في كافة المستشفيات والوحدات والمراكز الصحية والمعاهد الطبية على مستوى الجمهورية، لكن مع قرار نقابة الأطباء بتقديم الخدمات العلاجية للمرضى في المستشفيات بالمجان، والمفعل منذ أمس، نزلت "الوطن" لتخوض رحلة البحث عن "تذكرة علاج مجانية". سألنا موظفة شباك التذاكر بمستشفى "إمبابة العام" عن التذكرة المجانية فترد: "مكنش يتعز".. وزميلها: "مفيش الكلام ده" اختيار مستشفى إمبابة العام لم يكن عشوائيا، فهي من قائمة مستشفيات بالقاهرة الكبرى، أعلنت نقابة الأطباء في بيان لها، أنها تقدم الخدمات العلاجية مجانا، وهي: "شبرا العام، الخازندارة، الزاوية الحمراء، صدر العباسية، المنيرة العام، دار السلام، الحوض المرصود، القاهرة الجديدة، إمبابة العام، معهد السمع والكلام، التحرير بإمبابة"، ومع دقات العاشرة من صباح، اليوم، وعلى الرصيف الملاصق لأبواب المستشفى، كان أول طابور في انتظارنا، فعشرات المرضى متكدسون أمام باب صيدلية المستشفى لصرف العلاج، رافعين أيديهم بالروشتات، وسط محاولات غير مجدية من حارس الأمن لتنظيمهم في طابور واحد، ودلالات تبشر بالانتظار لساعات من أجل الوصول لحجرة الكشف، بعد ظني في البداية، أن المتجمهرين ينتظرون مجيء أطباء العيادة الخارجية، ولكن الحارس عدل وجهتي بقوله: "مش من هنا يا أستاذ، أقطع تذكرة من الشباك التاني، هنا الصيدلية".
"تذكرة الكشف" المحيرة.. "وشها ب2 جنيه وضهرها العلاج مجانا" الطابور على شباك التذاكر، كان أحسن حالا من سابقه، فيقف عليه سبعة مرضى كنت ثامنهم، لكن مشاكل موظفة شباك التذاكر مع "الفكة" غير المتوفرة، وبعض من الثرثرة العابرة للخارج مع زميل لها يقف على باب المستشفى، عطلت مسيرة الطابور بضع دقائق أخرى، لنقطع 30 دقيقة من أجل الحصول على تذكرة الكشف، ويأتي دوري لأطلب التذكرة المجانية، فيدور الحديث الآتي: "لو سمحت عاوز تذكرة"، لترد الموظفة: "هات 2 جنيه فكه لو سمحت"، فأقطع حديثها مستفسرا "مش الكشف النهاردة مجانا، ده قرار من نقابة الأطباء"، فترد مستنكرة: "كشف ببلاش، مكنش ينعز، هتقطع تذكرة يا أستاذ ولا تمشي متعطلش الطابور"، ثم تنادي زميلها من جديد: "يا إيهاب، الأستاذ بيقول الكشف النهاردة ببلاش"، فيتدخل زميلها: "مين اللي قال الكلام ده، ومين اللي يحاسب على الكشف، الكلام كتير، التذكرة دي بفلوس، وعندك مدير المستشفى أطلع قوله الكلام ده". طبيبة "عيادة الباطنة" تكشف على محرر "الوطن" بدون سماعة ولا جهاز ضغط.. وتنصحه: "خس شوية وأنت هتبقى كويس" وبعد سجال استمر لعدة دقائق، قررت قطع التذكرة، وتركت شباك التذاكر متجها إلى العيادة الخارجية في محاولة لسماع الأطباء ورأيهم، والاطمئنان على حالتي الصحية، إلا أن ما دار بداخل حجرة الكشف كان صادما، فدخلت إلى عيادة "الباطنة" بصفة مريض، وشكوت للطبيبة من بعض ورم يصيب قدمي، وأعراض ارتفاع ضغط الدم، التي تهاجمني من الحين والآخر، إلا أنها كانت تستمع للشكوى دون اهتمام، فلم ترفع سماعتها للكشف، أو تضعني على جهاز قياس ضغط الدم لطمأنتي، بل اكتفت بنصيحة متكررة اسمعها يوميا من المحيطين بي: "لازم تخس شوية، وأنت تبقى كويس"، بعدها نظرت إلى قدمي، وأوصت في تذكرة الكشف بإجراء "تحليل لوظائف الكلى"، وبعد يقين من عدم جدوى الاطمئنان على حالتي الصحية، عدت لأسأل الطبيبة عن خدمة الكشف المجانية، فردت ردا مقتضبا: "أنت مش قطعت تذكرة بفلوس، فين بقى الكشف المجاني". مريض مسن: "بنيجي نكشف عشان يجددولنا العلاج بس".. ورجل أربعيني: "مفيش حاجة ببلاش" خرجت لأجد العشرات في انتظار دورهم حول العيادات مختلفة التخصصات، وتبادلت مع بعض المرضى أطراف الحديث حول الخدمات المقدمة، ليقطع حديثي رجل مسن في السبعين من عمره، "الكشف هنا "كل شيء كان"، إحنا بنيجي عشان يجددولنا العلاج اللي إحنا عارفينه وبناخده من زمان"، وسألت رجل آخر في الأربعين من عمره: "هو مش النهاردة كانوا بيقولوا الكشف ببلاش"، فوجدته يرد مستنكرا "هو في حاجة ببلاش أنت بتصدق، ولو على الاتنين جنيه مش مشكلة، ما أحنا لو قادرين كنا كشفنا في عيادة خاصة"، ليقطع شاب حديثنا، ويشير إلى ظهر تذكرة الكشف، قائلا: "التذكرة مكتوب على ضهرها بالكشف بالعيادة الخارجية مجاني من 8 الصبح وحتى الساعة 2 الضهر، ورغم كدة بيدفعونا ال2 جنيه جباية". شاب ممسكا بتذكرة الكشف: "مكتوب على ضهرها مجانا وبياخدو 2 جنيه جباية" كلمات الشاب العشريني، تنبهك لقراء المكتوب على ظهر تذكرة العلاج، وكان نصه كالآتي: وفقا لقرار رئيس الوزراء رقم "4248" لسنة 1998، بشأن التيسير علي خدمات الصحة والسكان، على النحو التالي: "1- الاستقبال والطوارئ: بالمجان طول الوقت ولمدة 24 ساعة يوميا، 2- الكشف بالعيادة الخارجية (المجاني): خلال مواعيد العمل الرسمية من الساعة الثامنة صباحًا وحتي الثانية ظهرًا، 3- الكشف بالعيادات الخارجية (علاج اقتصادي) : بعد انتهاء مواعيد العمل الرسمية في الثانية ظهرا"، وهو القرار الوزاري، الذ استندت إليه نقابة الأطباء في دعوتها لتقديم الخدمة المجانية، والتي رغم القرار، تقدم وعلى مدار 18 عامًا ماضية نظير مقابل مادي.