الدين أسمى المواثيق وأعلاها، وهو أوثق العهود على الإطلاق، ولذلك سماه الفيومى فى «المصباح المنير»: عقيدة. فهو ليس مجرد عقد. والفرق بين «العقيدة» و«العقد» فى الاصطلاح العلمى: أن العقيدة تصديق قلبى والتزام ظاهرى. أما العقد فهو مجرد ارتباط أو التزام ظاهرى، وهذا يكفى الناس لأنهم لا يتعاملون بالنيات. المهم الذى نريد أن نقوله قبل بيان فكرتنا هو أن «العقيدة» أعلى مرتبة من «العقد»، وأوثق ارتباطاً منه، بل هى أصل المواثيق والعهود، فكل العقود فروع عليها، أو أتباع لها، فلا يجوز أن تنشأ العقود بين الناس إلا على وجه إنشاء العقيدة. وقد حسم القرآن الكريم طريقة نشأة العقيدة فى قوله سبحانه: «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ» (البقرة: 256). إذن لا عقيدة ولا دين بغير اختيار ذاتى، فالعقائد لا تفرض على الناس، وإن فرضت عليهم من السلطان لم تقبل منهم عند الله، ولقى السلطان ربه عاصياً؛ لأنه افتأت عليه، وأكره الناس على أمر جعله الله فى الدنيا على الاختيار والرضا. وإذا كانت العقيدة وهى أُمّ العهود والمواثيق لا تصلح ولا تقبل إلا بالاختيار والرضا فإن ذلك أصل شرعى لإقامة سائر العقود والاتفاقات بين الناس فى الإسلام، كما قال تعالى: «لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنْكُمْ» (النساء: 29). وأخرج البيهقى وأبو داود، وقال الألبانى: «حسن صحيح»، عن أبى هريرة، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لا يفترقن اثنان إلا عن تراضٍ»، كما أخرج البيهقى وابن ماجه بإسناد صحيح، عن أبى سعيد الخدرى، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إنما البيع عن تراضٍ». وحتى فى العلاقة مع الحاكم يجب أن تكون البيعة بالرضا والاختيار، كما قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» (الفتح: 10). وعندما ابتدع بعض مشايخ السلطان فى الدولة العباسية حَمْلَ الناس على بيعة الحاكم بالحلف بالطلاق، أفتى الإمام مالك بفساد تلك البيعة وببطلان هذا الحلف، كما جاء فى «الموسوعة العربية العالمية»، فلا بيعة ولا طلاق تحت تأثير الإكراه؛ لما أخرجه ابن ماجه والحاكم عن ابن عباس، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه». والدستور عقد اجتماعى يعبر عن توافق أفراد المجتمع وطوائفه وأحزابه على نظام الحكم وشكل الحياة العامة فيما بينهم، وهو أُمّ العقود الإنسانية، بمعنى أنه على ضوئه يتم إعداد القوانين التى تترجم سياساته إلى واقع ملموس، فإذا لم يصدر هذا الدستور عن اختيار ورضا حقيقيين كان غير شرعى، لأنه لم يتبع قواعد العقيدة الدينية التى هى أصل المواثيق والعهود، والتى تقوم على الرضائية الحقيقية وليست الرضائية بالديمقراطية الصورية. كما أنه سيكون دستوراً عبثياً لأن تطبيقه واحترامه لن يكونا بقوة السلطان، فهو قليل الحيلة أمام شعبه، وإنما سيكون التطبيق بإرادة شعبية. والشعب الذى حيل بينه وبين رضاه باسم الديمقراطية لن يلتزم بغير ما التزم. فالحل الإسلامى لقضية الدستور فى أى دولة هو التوافق والتراضى الشعبى؛ لأنه لا إكراه فى الدِّين.