تابعت تصريحات رئيس الوزراء البريطانى الأسبق، تونى بلير، منذ أيام، معلناً اعتذاره عن غزو العراق عام 2003، لأن الحرب بُنيت على معلومات خاطئة! ليس هذا وحسب، بل قال نصاً: «أعتذر عن بعض الأخطاء فى التخطيط وبالتأكيد عن خطئنا فى فهم ما سيحدث بمجرد الإطاحة بالنظام»، موضحاً أن غزو العراق وإسقاط نظامه هو السبب فى ظهور تنظيم داعش فى سورياوالعراق! لا أعرف على أى أساس يأتى هذا الاعتذار اليوم بعد مرور 12 عاماً باتت فيه العراق عنواناً متجسداً للفشل السياسى والكارثة الإنسانية؟ ولذا فلو قضى السيد بلير عمره كله هو وغربه مجتمعاً يعتذرون عما كان منهم لكان اعتذارهم بلا معنى. تذكرت -وأنا أتابع التصريحات- الفيلم الأمريكى «صمت الحملان»، الذى قامت ببطولته «جودى فوستر»، و«أنتونى هوبكنز» فى التسعينات وفاز بأكثر من جائزة أوسكار، وكان يحكى قصة أحد مصاصى الدماء الذى يأكل لحم قتلاه، ثم يمارس حياته الطبيعية كطبيب شهير. كنت أرى السيد بلير فى شخصية «هانيبال ليكتر» الذى يمص ويأكل لحم ضحاياه بذات البساطة التى يمارس بها حياته واعترافاته وظهوره العالمى، متناسياً حجم ومعاناة الضحايا الذين خلّفهم فعله. ودعونى أذكر السيد بلير وغربه بما دفعه العراق منذ غزوه فى العام 2003 حتى يومنا هذا ليتعرف على قيمة اعتذاره لنا وللعالم، فعلى مدى السنوات الماضية قُتل مئات الآلاف من العراقيين وتشرد 3 ملايين لاجئ وملايين النازحين العراقيين الذين فقدوا المأوى والأمان والأهل. ناهيك عن الفتنة الطائفية التى انتشرت فى العراق، فمزقتها شر ممزق بشكل أكبر مما خططت له أجهزة مخابرات بلاد الغرب. فالقصة لن تتوقف عند ثلاث دول شيعية وسنية وكردية، ولكن سيطال الشيعة انقسامات بين الولاء لإيران والولاء للوطن. وسيطال السنة انقسامات بين داعشيين وقاعدة، وأبرياء لا ينتمون لكليهما. ناهيك عن بقية الشعب العراقى ممن ينتمى لجذور مختلفة، ولكن كان يجمعهم «عراق». وإذا كان الاعتذار لن يفى الأنفس والأرواح التى حصدتها الحرب الزائفة فى مبرراتها يا سيد بلير، فماذا عن انهيار اقتصاد ثالث أكبر دول العالم تصديراً للبترول؟ ماذا عن الفقر والحاجة الذى بات يعانيه أهل بلد دجلة والفرات؟ هل تصدق أن الأسر العراقية كانت تحصل على الكهرباء طيلة 24 ساعة قبل الغزو، وبات معدل حصولها عليها اليوم فى أفضل الظروف لا يتجاوز الثمانى ساعات؟ هل تصدق أن بلاد الرافدين خصبة التربة موفورة المياه لا تجد قوتها ومياه شربها النقية؟ هل تصدق أن آثارنا العربية فى بغداد قبلة الحضارة سُرقت ونُقلت إلى متاحفكم وقصور أثريائكم وسماسرة الآثار على يد جنود احتلالكم ومسئوليكم الذين استباحوا الأرض والمال والعرض؟ فعن أى من كل هذا نقبل اعتذارك؟ عن تدمير الإنسان أم الوطن؟ عن نهب الحقوق التى تدعون الدفاع عنها بمنظمات مشبوهة وممولة من مخابراتكم؟ أم عن دهس الأحلام فى حياة آمنة، فقط آمنة لملايين من البشر الذين لم يعرفوا معنى الوطن إلا حينما هتكت أسلحتكم أرضهم؟ تتحدث زوراً عن معلومات خاطئة شابت قراركم بالحرب وهدم المعبد على أهله، ولكن ألم تفكر فى الاعتراف فى تلك الوقفة أن تخطيطكم للتخلص من صدام حسين سبق هذا التاريخ بسنوات بعيدة اكتملت الرؤية فيها فى العام 2000 وقبل انتخاب جورج دبليو بوش الابن، حينما سلم كل من «ديك تشينى»، و«دونالد رامسفيلد»، و«بول وولفويتس» مذكرة للإدارة الأمريكية أكدوا فيها أن مصالح أمريكا تتطلب التدخل والوجود الدائم فى الخليج العربى مع ضرورة التخلص من صدام حسين نهائياً؟ ألن تعترف بأن العراق كان المفتاح لغزو المنطقة بأسرها بدعوى نشر الديمقراطية؟ ألن تعترف بأنك وبلادك وحلفاءها لم تعرفوا يوماً سوى لغة المصالح الاستعمارية مهما تغير الأسلوب فى ذلك؟ اعتذر أو لا تعتذر، فلن يعيد اعتذارك ما ضاع منا ويبقى لنا عودة.