نفوس صابرة، وعزائم صامدة، روائح الحرب تهُبّ من جديد، مشاهد الدم والنار تُعيد إلى الذاكرة صور هجمات إسرائيلية سابقة، وما حل بالقطاع المحاصر من مجازر، الدماء تكسو الأرض، وأصوات الصواريخ تخترق الجدران، وأجزاء من أجساد مبتورة، يحملها الأطباء، إنها الأجواء التى عاشها مستشفى «الشفاء» الواقع بشارع النصر غرب غزة خلال الساعات الأولى من الهجوم الإسرئيلى، ورصدت «الوطن» وقائعها. «الوطن» تمكنت من الوصول للمستشفى الأكبر داخل القطاع المُحاصر بعد ساعات من بداية القصف الإسرائيلى على «غزة»، وسط شوارع خاوية وإعلان من وزارة الداخلية بإخلاء الميادين الأساسية، والتحذير من السير فى جماعات، على باب المستشفى تستقبلك الأناشيد الحماسية «قم زلزل الأرض.. زلزل أمن إسرائيل»، داخل مركز «العناية الحرجة»، لا وقت للأطباء لكى يسهبوا فى الحكايات عن الهجوم وأحوال المستشفى، لكن بصورة خاطفة استطعنا أن نلتقط منهم بعض المشاهد الدالة على حجم المأساة التى يتعرض لها القطاع. يحكى الأطباء عما سموه «عودة أجواء الحرب»، ويقول أحدهم: «القطاع أشبه بفحمة كبيرة»، وتابع: جثتان مجهولتان حملاها الأطباء بعدما وصلت نسبة الحروق فى جسديهما إلى أكثر من 90%، لم تمر لحظات حتى فارقا بعدها الحياة، جراء قصف على سيارة كانت تقلهما مع صديق ثالث فى حالة يرثى لها بين الموت والبقاء على سرير مقابل. المساجد المحيطة بالمستشفى تُذيع آيات قرآنية عن فضل «الشهادة»، مع سقوط كل ضحية كبيرة، يتبعها أصوات طلقات وزغاريد ابتهاجاً ب«عريس الفردوس»، والمئات يقفون على باب ثلاجة المشرحة بعدما صار عدد الشهداء 4، وفى الطابق الثالث يرقد «أحمد دغمش» الذى كُتب اسمه بقلم جاف على جسده المنهك بعدما نقله «أهل الخير» إثر إصابته بقذيفة، حتى لا يصير «مجهولاً» وسط الضحايا، خراطيم بلاستيكية تمر عبر أنفه وفمه، وضمادات يغطى احمرار الدماء لونها الأبيض، وجهاز التنفس الصناعى ينبض معلناً بقاءه حياً، قبل ساعات حضر «دغمش» وجزء من مخه خارج الرأس، لذا فرغم الغيبوبة الكاملة يرى الأطباء أن حالته تحسنت، على بُعد أمطار يمتص الطفل «حمزة السرساوى» (14 عاماً) شفتيه طلباً للماء، دون أن ينطق بكلمة، ونحو30 غرزة ارتسمت على بطنه، بعد إجرائه عملية استئصال للطحال عقب نزيف حاد فى البطن، «هذا جزاء حياتنا» يعلق بها الدكتور حسن خلف، مدير قسم الباطنة فى المستشفى، معتبراً أن الله اختار أهل غزة ليكونوا رأساً لنصر الأمة. التهديدات الإسرائيلية بإعادة تدمير القطاع واستهداف قادة «حماس» بدأت بقذيفة من طائرة «إف 16» عرفت طريقها إلى قائد كتائب عز الدين القسام «أبومحمد الجعبرى» الذى أشرف على خطف جلعاد شاليط، وهو القائد الفلسطينى الذى سبق أن استهدفته أكثر من 20 محاولة اغتيال، نجا منها جميعاً، كانت نهايته داخل ثلاجة المستشفى، ليلقى ربه، وسط «زغاريد» أمهات فلسطين وطلقات نار تزف خروجه، وشباب يحمل سماعات ضخمة «دى جى» لبدء إطلاق الأناشيد، عدد الشهداء وصل إلى 6، مع منتصف الليل. وفى خلفية المكان، وقف شقيق أحد الشهداء أمام باب غرفة فحص الطب الشرعى فى انتظار خروج جثة شقيقه، حاملاً ابن الشهيد على كتفه، محاولاً أن يكفكف دموع الطفل الصغير، عدد الأسرّة داخل المكان هو 700، يكفى لاحتمال العدد، غير أن مخاوف من تصاعد الأحداث يُخيف العاملين بالمستشفى، فيما تعلن «كتائب عزالدين القسام» عن قصف قوات الاحتلال ل10 قذائف كل دقيقة، من الطائرات والدبابات وكذلك البوارج التى اقتربت من ساحل غزة، وأصوات المروحيات تغلف الجو، فيما لا يبالى بها الحضور. «تعودنا خلاص ودماؤنا أثمرت ربيعاً عربياً» يقولها رجل ثلاثينى بحماس، عدد الإصابات وصل إلى 65 معظمها فى حالة حرجة، أما الشهداء فقد لحق بهم واحد ليصيروا 7. فى الطابق الرابع تطالعك صورة للدكتور ماهر سعيد الطبيب الراحل بالمستشفى وشهيد فى أحداث سابقة، الإذاعة الفلسطينية تعلن أن قادة إسرائيل قرروا أن الاجتياح البرى لغزة «مسألة وقت»، مع طلوع الصباح يدخل شاب نحيف يرتدى بذلة أنيقة حضر للاطمئنان على رفاقه فيأتيه تليفون تلمع معه عيناه بالدموع بعد سماع خبر إصابة زوج أخته بشظايا فى القدم قد تؤدى للبتر، أنات مستمرة وجملة واحدة لا يغيرها «هيثم يوسف»: «آه يا أمه مش قادر»، حوله تلتف الأسرة من أُم تتشح بالسواد وأخوين يحكيان عن القذيفة التى سقطت على بُعد ثلاثة أمتار من جلوسه على باب منزله فامتلأ جسده بالشظايا ودُمر أنفه بالكامل غير أن السيدة المكلومة لا تردد سوى «الحمد لله» ودمعة تسقط من عينها اليسرى، فيربت على كتفها شيخ عجوز ويصدح: «اللهم إنا مغلوبون فانتصر».