كانت حمص والكوفة تحديداً تشتهران بكثرة تمرد أهلهما على حكامهم وتكرار شكواهم.. فكان أن تقدم بعض أهل حمص بالشكوى ضد واليهم سعيد بن عامر، رضى الله عنه، إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.. فطلب «عمر» من الزمرة الشاكية أن تعدد نقاط شكواها، فكانت أربعة: «لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار.. ولا يجيب أحداً بليل.. وله فى الشهر يومان لا يخرج فيهما إلينا ولا نراه، وأخرى لا حيلة له فيها، لكنها تضايقنا، وهى أنه تأخذه الغشية بين الحين والحين».. فى ظروف أخرى لم تكن شكوى مثل تلك الشكوى تلقى بالاً عند أمير المؤمنين.. فما الضرر الذى يقع على أهل البصرة أن يغيب عنهم وإليهم يومين كل شهر؟ أو ما الذى يضيرهم إن كان يسقط مغشياً عليه بين الحين والآخر؟!! لكن حين يكون الوالى هو سعيد بن عامر.. ويكون أمير المؤمنين هو عمر بن الخطاب.. فسنجد أنه قد دعا الوالى إلى الدفاع عن نفسه!! فأتى الوالى بين يدى عمر.. وسأله: ما قولك يا سعيد؟ فابتسم سعيد بن عامر فى هدوء.. ثم قال: «أما قولهم إنى لا أخرج إليهم حتى يتعالى النهار.. فوالله لقد كنت أكره ذكر السبب.. إنه ليس لأهلى خادم، فأنا أعجن عجينى، ثم أدعه يختمر، ثم أخبز خبزى، ثم أتوضأ للضحى، ثم أخرج إليهم.. وأما قولهم: لا أجيب أحداً بليل.. فوالله، لقد كنت أكره ذكر السبب.. إنى جعلت النهار لهم، والليل لربى.. أما قولهم: إن لى يومين فى الشهر لا أخرج فيهما.. فليس لى خادم يغسل ثوبى، وليس لى ثياب أبدّلها، فأنا أغسل ثوبى ثم أنتظر أن يجف بعد حين.. وفى آخر النهار أخرج إليهم». وأما قولهم: إن الغشية تأخذنى بين الحين والحين.. «فقد شهدت مصرع خبيب الأنصارى بمكة، وقد بضعت -أى قطعت- قريش لحمه، وحملوه على جذعه، وهم يقولون له: أحب أن محمداً مكانك، وأنت سليم معافى..؟ فيجيبهم قائلاً: والله ما أحب أنى فى أهلى وولدى، معى عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة.. فكلما ذكرت ذلك المشهد الذى رأيته وأنا يومئذ من المشركين، ثم تذكرت تركى نصرة خبيب يومها، أرتجف خوفاً من عذاب الله، ويغشانى الذى يغشانى».. كان سعيد بن عامر يتحدث وهو يبكى فرد عليه «عمر»: «الحمد للله الذى لم يخيّب فراستى»! ثم عانقه وقبّل جبهته.. لم يكن «عمر»، رضى الله عنه، يجهل من هو سعيد بن عامر -الصحابى الجليل- وكان يعلم أيضاً من هم أهل حمص وتكرار شكواهم.. لكنه لم يتردد فى سماع الشكوى وسماع الدفاع.. وللحديث بقية إن شاء الله..