فى كل الدول التى شهدت ثورات ضد أنظمتها الديكتاتورية سعياً لتأسيس نظم جديدة تتبنى حقوق المواطن وتعيد الاعتبار لقواعد العدالة والمساواة وسيادة القانون، اجتازت مرحلة انتقالية حتمية، لها ترتيباتها التى تفرضها طبيعة الانتقال، وإن اختلفت بين بلد وآخر، لكنها كانت تتفق جميعها فى التأكيد على حرصها على عدم الوقوع فى حبائل الانتقام والشخصنة، فالوطن كان وراء القصد، وهذه القواعد عُرفت بالعدالة الانتقالية. وفى مصر وعلى امتداد عامى 2013 و2014 توالت الندوات والكتابات والأطروحات التى تناولت قضية العدالة الانتقالية، باعتبارها الآلية التى تضمن عبورنا المرحلة الانتقالية، بل وتبنت الحكومة هذا التوجه، فضمنت تشكيلها وزارة تحمل مسمى العدالة الانتقالية، لنجد أنفسنا أمام توافق بين المراكز الحقوقية التى تبنت الطرح فى الشارع والحكومة التى ترجمته إلى آلية على الأرض، لكن يظل السؤال حول مدى تفعيل هذا إلى أفعال ملموسة وإجراءات محددة تقودنا إلى إتمام اجتياز المرحلة الانتقالية، فى ضوء المقاومة الشرسة التى تقودها القوى التى أزاحتها ثورة 30 يونيو، ومن يدعمها بعد أن انهار مخططها بالارتداد بنا إلى ما قبل الدولة. ونحن نحتفل بمرور عامين على الثورة بحاجة إلى التوقف مع النفس وقراءة واقعنا، والانتباه إلى ما يسعى إليه أعداء الثورة بإرباكنا عن الهدف الذى من أجله كانت الثورة، والرد على هذا بالعودة مجدداً إلى ترتيبات العدالة الانتقالية، كما أخذ بها من سبقونا. العدالة الانتقالية فى إيجاز تقوم على الكشف عن الحقيقة الكاملة، على قسوتها، لبناء وعى جمعى للوقوف على الانتهاكات التى جرت بشكل يجعل من الصعب تكرارها مستقبلاً، وهو أمر يستوجب تشكيل لجان «مستقلة» هدفها الأساسى الكشف عن حقيقة ما حدث، وإطلاع المواطنين بشكل ممنهج على الملفات ذات الصلة، بشكل توثيقى. تليها «المحاكمات»، وهى تطال ما هو سياسى من قبيل الفساد والرشوة وتزوير الانتخابات وإفساد الحياة السياسية.. إلخ، على أن تكون عادلة وناجزة، يعقبها «التعويض وجبر الضرر» على مستويات متعددة مادياً ومعنوياً ورد الاعتبار قبل ثورة يناير وأثناءها وبعدها، ثم السير فى مسار «الإصلاح المؤسسى» إذ لا يمكن استيفاء متطلبات التحول الديمقراطى دون وجود تصور متكامل وواقعى لإصلاح ثلاث مؤسسات: الأمن والقضاء والإعلام، مع ملاحظة أن الإصلاح لا يعنى هدم تلك المؤسسات، ولا يعنى مجرد تغيير الولاءات من السلطة القديمة إلى السلطة الجديدة. وقد انتهت الدراسات المصرية التى تبناها المستشار عادل ماجد، نائب رئيس محكمة النقض إلى تحديد أهدافها فى: - كشف انتهاكات حقوق الإنسان ومعرفة حقيقتها وأسبابها ومداها والمسئولين عنها. - تقصى جذور العنف والإرهاب فى المجتمع ومعالجة الأسباب التى أدت إليه. - القصاص العادل للضحايا وجبر الأضرار التى لحقت بهم وذويهم. - محاربة سياسة الإفلات من العقاب. - إصلاح مؤسسات الدولة. - تنمية ثقافة وسلوك الحوار، وإشاعة روح الصفح والتسامح والوفاق، ونبذ العنف والانتقام، وإرساء مقومات المصالحة والوحدة الوطنية. - معالجة حالة الانقسام المجتمعى. - إرساء الثقة بين أطياف المجتمع، وترسيخ السلم الاجتماعى، وتحقيق التعايش السلمى بين أطيافه. - ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان، وإرساء دعائم سيادة القانون، وإيجاد المعالجات العادلة والمنصفة لكافة الآثار التى نجمت عن الانتهاكات الجسيمة للبحث عن تفعيل حقوق الإنسان، والعمل على عدم تكرارها مستقبلاً. - تحقيق المصالحة الوطنية بين أطياف المجتمع كافة. - حفظ الذاكرة الوطنية. - الانتقال بالوطن إلى صميم مرحلة الديمقراطية. فهل نعيد بعث الحياة إلى الذاكرة القانونية ونعيد طرح قضية العدالة الانتقالية، ضمن اهتمامنا بتنقية المنظومة التشريعية التى يتبناها الرئيس عبدالفتاح السيسى، وهل نجحت وزارة العدالة الانتقالية فى مهمتها هذه؟ وللطرح بقية.