جاء الصبى النابه إلى أبيه يعقوب النبى، وأسرّ إليه برؤيا عجيبة رآها فى منامه ليلة البارحة.. يَا أَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ.. كان الأب يعلم مدى ما يتمتع به «يوسف» من نجابة.. أحبه حباً ملك عليه قلبه وفؤاده، ولم تكن مشاعره وأحاسيسه لتخفى على أولاده الآخرين.. وبديهى أن تثير هذه المشاعر نوعاً من الكراهية تجاه الصبى.. وكان الأب الذكى يدرك هذا الأمر جيداً، لذا، كان حاسماً معه، وكان من الضرورى أن ينبهه إلى عدم إخبار إخوته بما رآه فى منامه، فالرؤيا تدل على أن الصبى ينتظره مستقبل كبير، وسوف يكون له شأن عظيم.. يقول يعقوب: «لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا (أى يحتالوا لك حيلة يردونك فيها) إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ، وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (يوسف: 5 -6).. وقد ثبت فى السنة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال فى الرؤيا: «إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به، وإذا رأى ما يكره فليتحول إلى جنبه الآخر، وليتفل عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من شرها ولا يحدث بها أحداً، فإنها لن تضره»، وفى الحديث الآخر الذى رواه أحمد وبعض أهل السنن أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت»، ومن هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر كما ورد فى حديث: «استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها فإن كل ذى نعمة محسود».. لقد أدرك يعقوب أن يوسف سوف يكون من المصطفين الأخيار، وأن الله تعالى سوف ينعم عليه بتفسير الرؤى والأحلام، وهذه خصوصية وميزة كبرى. وإحكاماً للمؤامرة، اجتمع إخوة يوسف فى مكان لا يراهم فيه أحد ولا يطلع عليهم فيه غيرهم، مخافة أن يفشى سرهم ويحبط مؤامرتهم.. ودارت المناقشة فيما يجب عمله تجاه يوسف.. يروى لنا القرآن ما حدث فى بداية الاجتماع، فيقول: «إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ».. لقد قاموا بتحديد المشكلة أو جوهر القضية، وهى أن الأب يحب يوسف وأخاه أكثر منهم، رغم أنهم يمثلون القوة التى يعتمد عليها، ثم أصدروا حكمهم على الأب بأنه أخطأ خطأ بيناً فى إيثاره عليهم.. أخذت حمية الغضب بعضهم، فانبرى يقول: «اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً (أى ألقوه فى أرض بعيدة عن أبيه) يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ».. الهدف هو التخلص من يوسف، سبب المشكلة، حتى يعود إليهم أبوهم كما كان فى سالف الأيام.. غير أنهم يدركون فى الوقت ذاته أن ما هم مقدمون عليه جريمة، وأن هذه الجريمة تستجلب غضب الرب عليهم، لذا قالوا: «وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ».. وبدلاً من أن يتعرفوا على الأسباب الحقيقية وراء محبة الأب لابنه، وبالتالى يصلحون من سياساتهم ومواقفهم حتى ينالوا محبة أبيهم بنفس القدر، إذا بهم يفكرون فى التخلص من أخيهم.. إنه نفس الموقف الذى حكاه القرآن عن أحد ابنى آدم من أخيه.. لقد تقدم الاثنان بقربان، فتقبل الله تعالى قربان أحدهما ولم يتقبل من الآخر.. علم الله من الأول صدقاً وإخلاصاً، فتقبل منه، وعلم ما فى قلب الثانى من نوازع الشر والحقد والكراهية فلم يتقبل منه.. فما كان من هذا الثانى إلا أن قال لأخيه: لأقتلنك.. بهذه البساطة.. هذا هو الحل السهل الذى ارتآه.. ونفذ تهديده ووعيده، فقتل أخاه.. إنها النفس البشرية حينما تنحط وتتدنى إلى أسفل الدركات، وهذه ليست مقتصرة على عصر دون عصر، أو مكان دون مكان، بل هى موجودة على امتداد الزمان والمكان، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. لا تشتغل بإصلاح نفسها وعيوبها حينما يلاحقها فشل، ولا تحاول معرفة أسبابه، وإنما تصب جام غضبها وحقدها على الناجحين، حتى ولو أدى الأمر إلى سفك دمائهم.. ولا يكتفى الفاشلون بذلك، بل إنهم يعمدون إلى محاولة تشويه صورتهم، والإساءة إليهم، ورميهم بكل نقيصة، أى ينتقلون من اغتيال مادى إلى اغتيال معنوى، ولله فى خلقه شئون (!) تحركت دوافع الرأفة والرحمة فى قلب أحدهم، ولعله يكون أخاه، ليحول دون قتل يوسف.. فكر جيداً كيف ينقذ أخاه من القتل، وينقذ إخوته فى الوقت ذاته من ارتكاب هذه الجريمة البشعة؟!.. وحتى لا يتهم من قبل العصبة بمحاباة أخيه، قدم اقتراحاً عبقرياً: «لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ».. أحياناً يكون من الصعب، بل من المستحيل أن يقف الإنسان فى وجه التيار، خاصة إذا كان قوياً وغاضباً وجامحاً.. كيف تستطيع بمفردك أن تواجه العاصفة دون أن تفقد هدفك أو اتزانك؟.. إن الموقف يحتاج إلى الفكرة العبقرية، وها هى قد جاءت على لسان أخيه فى اللحظة المناسبة، فلم يشأ أن يضيعها، وكانت لديه الشجاعة لطرحها.. أبدى الجميع قناعتهم ورضاهم، وقاموا لتنفيذ المهمة.. «قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ. أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ».. حاولوا استمالة قلب الأب كى يأذن لهم فى ذهاب يوسف معهم، وأبدوا أسباباً قوية ومقنعة، لكنه كان رافضاً وغير مستجيب لطلبهم لما يعرفه عنهم من سلوك، وما يضمرونه فى قلوبهم تجاه يوسف.. وأمام الإلحاح الشديد اضطر أن يلقى بآخر ورقة.. إظهار الحزن لفراق يوسف، فهو لا يريد أن يغيب عن نظره لحظة.. ثم الخوف بأن تكون هذه هى النهاية.. «قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُون».. لكن إخوة يوسف، ما كان ليؤثر فيهم تلك المشاعر الرقيقة الحانية.. إن وراءهم هدفاً يسعون إلى تحقيقه مهما كانت العقبات.. شخصياً كنت أفضل أن يظل يعقوب النبى على إصراره فى الرفض، لكن هكذا جرت مشيئة الله تعالى لتكون بين أيدينا قصة من أروع القصص الذى يمتلئ بالدروس والعظات والعبر.. (وللحديث بقية إن شاء الله).