كلما تتالت الأنباء المخزية عن حالات الغش الجماعى (المكتشفة) تذكرت الفريق محمد إبراهيم سليم، منشئ الكلية الفنية العسكرية، وأحد البنائين العظام فى تاريخ مصر وترحمت عليه، كانت الكلية الفنية العسكرية عندما التحقت بها فى بداية السبعينات من القرن الماضى هى كلية المتفوقين فى مصر، وهى سمعة اكتسبتها منذ إنشائها فى نهاية الخمسينات على يد مؤسسها العظيم الفريق سليم (كما كنا نسميه)، وقصة الكلية الفنية العسكرية ملحمة تستحق أن تفرد لروايتها مساحة أكبر فى وقت لاحق، لكننى سأركز اليوم على جانب مشرق واحد كنا نظنه وقتها عادياً واكتشفنا لاحقاً أنه لم يكن كذلك. لا أنسى ذلك اليوم فى الأسابيع الأولى لالتحاقنا بالكلية، عندما تلى علينا فى الطابور قرار مجلس الكلية برئاسة الفريق سليم بمعاقبة اثنين من طلبة السنة الخامسة (البكالوريوس) بالعودة للسنة الثالثة بتهمة محاولة الغش فى أحد الامتحانات، كانت العقوبة غريبة على مسامعنا، فهى ليست رسوباً أو حرماناً من دخول الامتحان وإنما (تنزيل عامين)، وهى عقوبة بالغة القسوة والإذلال لا سيما فى كلية داخلية، أى أن الطالب المعاقب لن يجلس فى بيته طول العام ويذهب للامتحان فى نهايته، وإنما سينضم إلى طلاب أحدث منه (فى السنة الثالثة) يحضر معهم محاضراتهم التى سبق له حضورها من عامين ويمتحن معهم من جديد، ويسبقه فى الأقدمية ويشرف عليه طلاب أحدث منه (السنة الرابعة)، تكررت هذه العقوبة الغليظة ثلاث أو أربع مرات خلال فترة دراستى بالكلية (خمس سنوات)، واعتدنا على سماعها، كان الرجل يقول إنه لا يستقيم أن تكون ضابطاً وغشاشاً فى آن واحد، ويرسخ فى أذهاننا قاعدة (أن ترسب خير من أن تغش). بعد ذلك بسنوات كنت أنتظر مع عدد من أولياء الأمور خارج المعهد الابتدائى الأزهرى النموذجى الذى ألحقت به ابنى ليحفظ القرآن إلى جانب دراسته للعلوم المدنية، كان ذلك يوم امتحان القرآن، وتعجبت من تهليل كثيرين منهم عندما (بشرهم) أحد الخارجين من اللجنة أن (المدرسين) قاموا بتغشيش التلاميذ آيات القرآن الكريم (!)، يومها تذكرت الفريق سليم وترحمت عليه. فى منتصف الثمانينات قام وزير التربية والتعليم الدكتور فتحى سرور بحرمان أول حالة غش جماعى مضبوطة فى تاريخ مصر بإحدى مدارس بنى سويف (200 طالب) من الامتحان، فانبرى له زعيم الأغلبية البرلمانية للحزب الوطنى المنحل فى جلسة تاريخية منادياً بالعفو عن أبنائنا الغشاشين حتى لا يضيع مستقبلهم، مؤكداً أن الله يعفو عن عبده المخطئ فكيف لا نعفو نحن؟ فتمت الموافقة على إلغاء العقوبة وسط تصفيق حاد من السادة نواب الشعب (معظمهم نجح فى الانتخابات بالغش أصلاً)، ولست أدرى كم واحداً من هؤلاء الطلبة الغشاشين الذين لم يضع مستقبلهم يومها، فضيعوا مستقبلنا فيما بعد من خلال مناصبهم التى حصلوا عليها بالغش! قرى بأكملها اليوم تتكاتف لجمع تبرعات من أولياء الأمور لإكرام المراقبين القادمين لامتحان الثانوية العامة والاحتفاء بهم ليردوا الكرم بكرم أكبر، ويسجد ولى الأمر شكراً لله على نجاح ابنه بالغش وسطْوه على مكان طالب مجتهد لم يغش ولا يشعر بأى مشاعر خجل. فاللهم ارحم الفريق سليم بحق هذا الشهر الكريم.