الحضارة -بمعناها الكامل كما كان فى الأندلس- حالة شاملة، ونهضة فى شتى الجوانب أو معظمها، وأهم عناصرها الإنسان مهما كان نوعه، الرجل والمرأة، المواطن مسلماً كان أم غير مسلم. وتقوم تلك الحضارة على قيم عظيمة، وبعضها جاء مبتكراً حسب العصر، لكنها إذا زالت، زالت حتى الدول التى أقامتها أو قامت عليها. وتذكر كتب التاريخ أن كثيراً من النساء تفوقن فى الأندلس فى شتى العلوم والفنون. كان منهن العالمات فى شتى فروع المعرفة، واشتهر منهن وبينهن فقيهات، تتلمذ على أيديهن علماء وفقهاء، كما قال ابن حزم عن نفسه، وكان منهن المحدَّثات (اللائى برعن فى علوم الحديث)، فضلاً عن الشاعرات والكاتبات، ممن كنّ يكتبن القرآن الكريم بخطهن الجميل، والمخطوطات فى هذا كثيرة. وقد ذكرت لنا كتب التاريخ أن قرطبة وحدها كان فيها 170 امرأة يكتبن القرآن بخطهن الجميل كما وصف ابن حيّان، عائشة بنت أحمد بن مقبل، التى لم يكن فى الأندلس فى زمانها من يعدلها فهماً وعلماً وأدباً وفصاحةً وعفةً. كانت حسنة الخط وتكتب المصاحف والدفاتر وتجمع الكتب. كل هذا، وكان منهن من يعملن بالسياسة، ولهذا آثار باقية فى قضايا السياسة والحكم. برزت فى تلقى العلوم والسفر خارج مولدها أندلسيات فى مقدمتهن، فاطمة بنت سعد الخير، التى ولدت بالأندلس، وهاجرت من أجل العلم إلى بغداد والشام، ثم سافرت إلى القاهرة فى رحلة علمية، وعاشت فيها حتى ماتت ودفنت بها. كانت القاهرة محط العلم والعلماء، وبها الأزهر أقدم جامعة إسلامية فى العالم. ومن النساء الأندلسيات من عملن بالسياسة والثورات، وحتى الدسائس، ومنهن السيدة «صبح» التى أعانت المنصور فى الوصول إلى الحكم، أما «الزلفاء» أم المظفر بن المنصور، فهى التى أعانت محمد بن هشام فى الثورة على عبدالرحمن بن المنصور، انتقاماً لابنها المظفر. كانت المرأة، خصوصاً الكبيرة فى السن «العجوز»، تقوم بمساعدة الأخريات «من الصغيرات أو الشابات» عند الزواج. ويذكر ابن حزم ذلك جلياً فى «طوق الحمامة»، وكان التعاون كبيراً، حتى أنهن كن يقمن بتسليف حليهن وزينتهن من الثياب وغيره إلى العروس الفقيرة أو «المقلة»، أى صاحبة الحظ القليل. تقول الدكتورة راوية عبدالحميد نافع فى صفحة 84 من كتابها «المرأة فى المجتمع الأندلسى من الفتح الإسلامى حتى سقوط قرطبة»: «ويدل هذا على أن المرأة الأندلسية العجوز، التى انقطع عنها الرجاء، لم تجلس قعيدة البيت، بل كانت تحاول أن تشارك فى مجالات، إن صح التعبير، هى مجالات الخدمة الاجتماعية». وقد أدت العلاقات المستمرة بين المسلمين والمسيحيين، بحكم الجوار والتداخل الحضارى، أن يستخدم كلا الجانبين الأشياء نفسها من الأقمشة والأثاث وأدوات الزينة والحلى، ولقد قام المستعربون واليهود بدور الوسيط بين شمال إسبانيا والأندلس فى الجنوب». مَن من الأدباء والشعراء والفنانين والمثقفين، بل من السياسيين، من لا يعرف «ولادة بنت المستكفى»؟ قد تكون «ولادة» أشهر شاعرات الأندلس، بل كما تقول الدكتورة راوية، أشهر شخصية نسائية فى التاريخ الأندلسى كله. هى بنت الخليفة محمد بن عبدالرحمن بن عبدالله بن الناصر لدين الله الملقب بالمستكفى بالله. أتذكر أن بعض أساتذتنا فى المرحلتين الابتدائية والثانوية، وذلك فى أوائل الخمسينات من القرن الماضى، كانوا يقولون لنا اقرأوا عن «ولادة»، وتعلموا شعراً جزلاً، بدلاً من سماع حكايات عن الجن وأمنا الغولة، وما أكثر ما سمعنا من تلك الحكايات وخصوصاً فى الأرياف والقرى. تقول كتب التاريخ والأدب أن ولادة بنت المستكفى، هكذا يختصرون اسمها الذى تعرف به، تمتعت بحرية واسعة أوسع مما عرف نساء عصرها، وبعضهم يعتبرونها رائدة فى هذا، وبعضهم يأخذ عليها ذلك، ويعتبره خروجاً على أعراف عصرها. كما يقول كثير من المؤرخين والأدباء، أنها كتبت بيتين من الشعر يحفظهما الكثيرون، وهى تفتخر بالقدرات والمواهب التى لديها، وكأنها تعلن عن نفسها، وهى تصرخ فتقول: «أنا والله أصلح للمعالى وأمشى مشيتى وأتيه تيهاً أمكّن عاشقى من صحن خدى وأعطى قبلتى من يشتهيها». وهناك من ينفى نسب هذين البيتين ل«ولادة» لما فيهما من خروج، وكأنها توزع القبلات على من يشتهيها، بدلاً من المساعدات والأعطيات. التاريخ فيه هذا وذاك، ويظل دور المرأة عظيماً فى الحضارة العربية والإسلامية. كان فى الأندلس هذا وذاك، وهو على نفس نسق بعض الشعراء فى الجزيرة العربية قبل الإسلام وبعده. وهناك ما هو أعظم أو أقبح مما قالت ولادة. اليوم نحتاج إلى حضارة منضبطة يبرز فيها دور المرأة دون الانخداع بالغرب، أو الوقوع فى حبائل التغريب، ودون كبت لها أو كبح لقدراتها من الجهلة والمتشددين. والله يحفظ نساءنا من كل شر ومكروه. وللحديث صلة والله الموفق.