حين أسس رسول الله مسجده النبوى، لم يكن للصلاة فقط، بل كان جامعة، كاملة الأركان، وحياة ينبض بها المكان الطاهر، يجلس فيه النبى معلماً، يستقى منه أصحابه رحيق الرسالة السماوية. ومضت القرون، ليؤسس فى مصر فى عام 975 ميلادى الجامع الأزهر، ليصبح السراج الذى بنوره تضىء علوم الدين، وتحيا بين جنباته. أول شىء يفكر فيه المهندس المعمارى: الأعمدة، التى على أساسها يقوم البناء، هكذا الجامع الأزهر، بنى على أعمدة صلبة، تقف شاهدة على تاريخ ممتد من الحضارة الإسلامية، ليست حضارة معمارية فحسب، لكنها علمية أيضاً، فبينما قسم الجامع الأزهر قديماً إلى أروقة، هذا عباسى، وهذا فاطمى، فقد قسمت الأروقة إلى أعمدة، يستند كل شيخ إلى أحدها، حيث يتحلق حوله طلبة العلم، ينهلون من دروس الفقه والأصول والحديث والتفسير والنحو والصرف والمعانى والبيان والبديع والمنطق. يعرف الطالب الحلقة، والشيخ، فيرتادها، لا ينقطع عنها، فهذا يريد الفقه، يجلس متتبعاً الدروس، حتى يصل المقرر للكفاية، وينهى شيخ العمود دروسه، بادئاً مع طلبة جدد. من الدارسين عند عمود الأزهر، الزعيم الشعبى عمر مكرم، النازح من أسيوط، لتلقى العلم فى حضرة الأزهر الشريف، ولى نقابة الأشراف فى مصر سنة 1793، وقاد حملة لمقاومة الاستعمار الفرنسى، كما كان صاحب الدور الأساسى فى خلع خورشيد باشا عام 1805، ليتولى محمد على حكم مصر. رفاعة الطهطاوى، القادم من طهطا، أدرك أن تكوينه العقلى لن يكتمل إلا بالهجرة إلى القاهرة، حيث المسجد الكبير، قبلة العلم، ومحراب العلوم الشرعية وغير الشرعية.. هناك فى عمود تشّرب كل قواعد النحو والصرف، وفى عمود آخر امتلأ صدره بعلم الحديث والسيرة النبوية، وعبر شيخ عمود جديد علمه الفقه والتفسير، ليكتمل نموه العقلى، ويسافر البعثات ويعود مؤسساً لكلية الألسن، ما زالت قائمة حتى يومنا. الشيخ محمد عبده، قائد التنوير الإسلامى فى العصر الحديث، جلس فى رحاب الجامع الأزهر، متعلماً وعالماً فيما بعد، حيث استقى دروس الفقه، ووعاها جيداً وحصل على شهادة العالمية، تلك الشهادة التى لم تكن تعطى لأى من طالبى العواميد، بل من يدرس إحدى عشرة مادة، يخوض بعدها امتحاناً بالغ القسوة، لم يكن ينجح منه سنوياً إلا العشرات، الذين ينتشرون فى محافظاتهم، حاملين لواء علم حقيقى، اشتهر فى المنيا على سبيل المثال، فى الثلث الأول من القرن الماضى، الشيخ محمد عبدالسميع الحفناوى، الذى أسس لعلوم شرعية، بفهم حقيقى نشرها فى محافظته، وتسببت فى نفيه إلى فرشوط، لكن آثاره باقية حتى اللحظة، المعروف أن المولودين من رحم العواميد كانت تطالهم يد التعقب، فقد نُفى الشيخ محمد عبده إلى باريس، لكنه بعدها أسس جمعية إحياء العلوم العربية، وفُصل منصب المفتى عن شيخ الأزهر. العمود لم يفرخ شيوخاً فقط، بل أدباء أيضاً، وليس أدل من عميد الأدب العربى طه حسين، الذى كتب فى سيرته الذاتية «الأيام» عن حلم أبيه بجلوسه إلى أعمدة الأزهر، والتنقل بين صحونه، وأفرد الجزء الثانى من كتابه الشهير، للأزهر وشيوخ العواميد فيه، هؤلاء الشيوخ الذين غلب على معظمهم انعدام الشهرة على مر العصور، لكن علمهم وطّن لهم احتلال تلك المكانة، ولم يعرف منهم بشكل شهير، إلا من يعد على أصابع اليد، مثل الشيخ المراغى والإمام محمد عبده والشيخ حسين المرصفى. ورغم أن طه حسين، قد نال من الشيوخ بالاستهزاء من طريقتهم التى كانت النمطية قد بدأت فى التسرب إليهم، فإن ذلك لم ينف تعلمه، الذى اعترف به فيما بعد. تطور الأمر، وبدأ شيخ العمود فى التوارى، حاول الشيخ أحمد حسن الباقورى إعادته بتأسيس كلية الدراسات الإسلامية والعربية داخل أروقة الجامع الأزهر، لكن لم يلبث أن مرت بضع سنوات، حتى انتقلت الكلية خارج حدود الجامع الأزهر، داخلة إلى الحرم الجامعى، لتنتهى أسطورة شيوخ تخرج على أيديهم عشرات ممن أثروا الحياة المصرية فى مختلف المجالات. مؤخراً، نظمت جماعة أطلقت على نفسها اسم «شيخ العمود» تابعة لمسجد رابعة العدوية، دورات فى علوم الفقه والتزكية والنحو واللغة والمنطق والعقيدة، بغرض إحياء الدراسة الشرعية على طريقة شيخ العمود الأصيلة، وكان على رأسهم الشيخ حسن الشافعى رئيس مجمع اللغة العربية ومستشار شيخ الأزهر، لكن الحقيقة أن عمود الأزهر، رغم حمله للجامع معمارياً لقرون ممتدة، بدأ فى التآكل، منذ عصر طه حسين وحتى الآن. أخبار متعلقة: الأزهر الشريف.. فى قلب معركة «الدين والسياسة» الكعبة الثانية.. تبحث عن"استعادة التأثير" بعد الثورة «أعمدة»الجامع.. قِبلة علم أصابها التآكل غاب عن الدعوة.. فظهر المتشددون والدعاة الجدد أقباط: علاقة الأزهر بالكنيسة يحكمها توافق الإمام والبابا 1000 عام من منح الشرعية الدينية للسلطة.. وتأييد الثورات بعد نجاحها الميزانية.. 6.8 مليار تلتهمها الأجور د.أحمد عمر هاشم: الأزهر إرادة الله.. والسلفيون لن يسيطروا عليه أحمد بهاء الدين شعبان: اليوم وزير الأوقاف سلفى.. ولا نعلم غداً من سيكون شيخاً للأزهر