فى لحظات التساؤل وإعادة البناء تكثر الأسئلة المتصلة بالماضى، ويبحث الناس عن «أحكام» بشأن هذا الماضى، وبخاصة إذا كانت فروع الشجرة تمتد لقلب المشهد الراهن، حيث أطلقت الثورة مسارى حوار متقاطعين، حوار حول المستقبل وجدل حول الماضى. وكما يقول المثل: «فى الليلة الظلماء يُفتقَدُ البدر». لكن ما يفتقده المصريون فى الدوار السياسى التالى للثورة ليس بدراً بل «بدور». وكما تنشغل النخبة بنماذج يمكن أن تكون ملهمة كالنموذج التركى أو الماليزى، كذلك يحنون لأشخاص، يمثل كل منهم سلة خيارات. والبعض يراهم طوق نجاة فى لحظة صنعت الجموع فيها التغيير ولم تجد من يمسك زمام القيادة. وهكذا عاد الحديث -فى مسار جدل فرعى- حول الماضى بنموذجيه المختلفين إلى حد التضاد شبه التام: جمال عبدالناصر وأنور السادات. وفى حوار مع الإعلامى أحمد المسلمانى فى برنامجه «الطبعة الأولى» قدم المستشار طارق البشرى تقييمه كمؤرخ ومفكر لتاريخ مصر المعاصر، وجاء تقييمه لعصر السادات حافلاً بما يستحق التعليق. ولولا أننى عايشت مؤلفات الرجل، فضلاً عن حوارات معه فى منزله، أثناء تأليف كتابى عنه لكنت شعرت بالدهشة بل ربما الصدمة! طارق البشرى أطلق جملة أحكام على الرجل وعصره تكشف عن تحيزات هى أقرب إلى «القناعات المسبقة»، وينطبق هذا أيضاً على العبارات القليلة التى قالها عن الكاتب المعروف محمد حسنين هيكل. ومما قاله البشرى أن رجال عبدالناصر اتفقوا على السادات بأمل السيطرة عليه، وهذا صحيح، لكنه أضاف أن السادات بعد أن أطاح بخصومه لم يكن لديه رؤية سياسية سوى هدم ما بناه عبدالناصر، فى سياساته الاجتماعية ورؤيته للعلاقات الدولية، وكأن الرجل حكم مصر مدفوعاً -فقط- بالرغبة فى مخالفة عبدالناصر. وهذا طبعاً فضلاً عن أن انتصار أكتوبر كان استثماراً لجهود عبدالناصر، أما قرار الحرب والتحول الاقتصادى (الانفتاح الاقتصادى)، فليس سوى جزء من مشروع إعادة عقارب الساعة للوراء، حتى «مذبحة القضاء» تحدث عنها البشرى بلهجة مخففة وكأنها لم تكن إحدى أكبر خطايا عبدالناصر. أول ما يستحق التعليق فى تقييمات طارق البشرى أنها ليست سوى إعادة صياغة أكثر صقلاً لرؤية التيار الناصرى، وهى رؤية لا تكاد تكون لها صلة بالموضوعية والإنصاف. والسادات فى المقام الأول ضحية جموح يسارى تعكسه تقييمات البشرى الذى حمل معه القسم الأكبر من انحيازاته كيسارى سابق لم تخلصه المراجعة الفكرية من السمات الرئيسة لهذا المزاج السياسى، مع ميل واضح إلى المحافظة. وهذا مزاج معظم النخبة، وهم يتعاملون مع السادات بطريقة يلخصها قول الإمام على «إذا أقبلت الدنيا على رجل أعارته محاسن غيره.. وإذا أدبرت الدنيا عن رجل سلبته محاسن نفسه»! ومن المفارقات أن تقييم البشرى لعبدالناصر هو -بالضبط- الوجه الآخر للعملة، فقد نظر المستشار طارق البشرى لعبدالناصر ب«عين الرضا» ونظر للسادات ب«عين السخط»، فلم ير أياً منهما لا بعين المؤرخ ولا بعين المفكر. وعندما يبحث المصريون عن رمز يلخصون به خياراً ممكناً فى مسار المستقبل الذى يتشكل، فيجب استشعار القلق من ظهور اسم جمال عبدالناصر، فرغم النكسة، والانتهاك الأسطورى لحقوق الإنسان، ومذبحة القضاء، ورغم تشييد «دولة المخبرين» المسماة «التنظيم الطليعى»، ورغم القمع المنظم للجميع، وضمن ذلك أعضاء مجلس قيادة الثورة أنفسهم، و.. .. .. يرى البعض عبدالناصر «طوق نجاة» وخياراً للمستقبل!!! والقضية هنا ليست السجال ولا الرغبة فى الدفاع عن السادات، وهى كذلك ليست تفنيد خطاب المفتئتين عليه -وهم «كُثرُ»- بل القضية هى المعايير التى نقيِّم بناء عليها ما مر، فهذه المعايير هى أول ما سيحدد وجهة المستقبل. وما شهده حكم السادات من انتصار عسكرى وتحول اقتصادى واتفاق تسوية لولاه لكانت سيناء الآن كالجولان، معالم واقعية سياسية عجز عبدالناصر عن امتلاك شجاعة اتباعها، فهو بحث عن زعامة شعبوية انتهت -بعد سنوات من الكلام عن فلسطين- إلى النكسة وتوقيع «مبادرة روجرز». أما مبارك ففشل فى الاستمرار فيها، وبالتالى شوهها. عفواً سيادة المستشار.. واسمح لى أن ألخص تعقيبى على رأيك فى السادات مستعيراً عنوان كتاب للمستشرقة الألمانية الشهيرة الراحلة سيجريد هونكة: «السادات ليس كذلك»!