انتخابات «النواب» بمحافظات الصعيد: إقبال متوسط في أول أيام التصويت    بصورة "باي باي" ل ترامب، البيت الأبيض يرد على فيديو إلهان عمر بشأن ترحيلها من أمريكا    ترامب: ناقشت مع الشرع جميع جوانب السلام في الشرق الأوسط    ستيفن صهيونى يكتب: الفضيحة التي هزت أركان الجيش الإسرائيلي    مقتل شخصين إثر تحطم طائرة إغاثة صغيرة في فلوريدا بعد دقائق من إقلاعها    موعد مباراة السعودية ضد مالي والقنوات الناقلة في كأس العالم للناشئين    انيهار جزئي في عقار بحي وسط المنيا    ربنا هيعوضك بالأحسن.. بسمة بوسيل ل آن الرفاعي بعد طلاقها من كريم محمود عبدالعزيز    أبرزها "الست" لمنى زكي، 82 فيلما يتنافسون في مهرجان مراكش السينمائي    إقامة عزاء إسماعيل الليثي.. غدًا    الإطار التنسيقي الشيعي يدعو العراقيين إلى المشاركة الواسعة والفاعلة في الانتخابات التشريعية    سلطنة عمان تشارك في منتدى التجارة والاستثمار المصري الخليجي    أسامة الباز.. ثعلب الدبلوماسية المصرية    إصدار تصريح دفن إسماعيل الليثى وبدء إجراءات تغسيل الجثمان    رسميًا.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي 2025 وخطوات استخراجها مستعجل من المنزل    نورهان عجيزة تكشف كواليس اليوم الأول للمرحلة الأولى بانتخابات النواب 2025 في الإسكندرية    في ثاني أيام انتخابات مجلس نواب 2025.. تعرف على أسعار الذهب اليوم الثلاثاء    كندا تفقد وضعها كدولة خالية من الحصبة بعد 3 عقود    يمهد الطريق لتغيير نمط العلاج، اكتشاف مذهل ل فيتامين شائع يحد من خطر النوبات القلبية المتكررة    انهيار جزئي لعقار قديم قرب ميدان بالاس بالمنيا دون إصابات    التعليم تعلن خطوات تسجيل الاستمارة الإلكترونية لدخول امتحانات الشهادة الإعدادية    «في مبالغة».. عضو مجلس الأهلي يرد على انتقاد زيزو بسبب تصرفه مع هشام نصر    أسعار العملات العربية والأجنبية أمام الجنيه المصري اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    استعدادًا للتشغيل.. محافظ مطروح يتابع تأهيل سوق الخضر والفاكهة بمدخل المدينة    ريم سامي: الحمد لله ابني سيف بخير وشكرا على دعواتكم    أمطار على هذه المناطق.. بيان مهم من الأرصاد يكشف حالة الطقس خلال الساعات المقبلة    وزارة الداخلية تكشف ملابسات واقعة السير عكس الاتجاه بالجيزة    مع دخول فصل الشتاء.. 6 نصائح لتجهيز الأطفال لارتداء الملابس الثقيلة    أهمهما المشي وشرب الماء.. 5 عادات بسيطة تحسن صحتك النفسية يوميًا    بعد لقاء ترامب والشرع.. واشنطن تعلق «قانون قيصر» ضد سوريا    سعر الطماطم والخيار والخضار بالأسواق اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    نيسان قاشقاي.. تحتل قمة سيارات الكروس أوفر لعام 2025    محدش يزايد علينا.. تعليق نشأت الديهى بشأن شاب يقرأ القرآن داخل المتحف الكبير    التخضم يعود للصعود وسط إنفاق بذخي..تواصل الفشل الاقتصادي للسيسي و ديوان متفاقمة    بسبب خلافات الجيرة.. حبس عاطل لإطلاقه أعيرة نارية وترويع المواطنين بشبرا الخيمة    استغاثة أم مسنّة بكفر الشيخ تُحرّك الداخلية والمحافظة: «رعاية وحماية حتى آخر العمر»    النائب العام يستقبل وزير العدل بمناسبة بدء العام القضائي الجديد| صور    إصابة الشهري في معسكر منتخب السعودية    المغرب والسنغال يبحثان تعزيز العلاقات الثنائية والتحضير لاجتماع اللجنة العليا المشتركة بينهما    زينب شبل: تنظيم دقيق وتسهيلات في انتخابات مجلس النواب 2025    صلاة جماعية في البرازيل مع انطلاق قمة المناخ "COP30".. صور    مروان عطية: جميع اللاعبين يستحقون معي جائزة «الأفضل»    تجنب المشتريات الإلكترونية.. حظ برج القوس اليوم 11 نوفمبر    4 أسابيع من التقدم.. حظ برج الدلو اليوم 11 نوفمبر    المعهد الفرنسي يعلن تفاصيل الدورة الخامسة من مهرجان "بوبينات سكندرية" السينمائي    بي بي سي: أخبار مطمئنة عن إصابة سيسكو    اللعنة مستمرة.. إصابة لافيا ومدة غيابه عن تشيلسي    لماذا تكثر الإصابات مع تغيير المدرب؟    تقارير: ليفاندوفسكي ينوي الاعتزال في برشلونة    خطوة أساسية لسلامة الطعام وصحتك.. خطوات تنظيف الجمبري بطريقة صحيحة    أوكرانيا تحقق في فضيحة جديدة في شركة الطاقة النووية الوطنية    أسعار الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    رجال الشرطة يجسدون المواقف الإنسانية فى انتخابات مجلس النواب 2025 بالإسكندرية    هل يظل مؤخر الصداق حقًا للمرأة بعد سنوات طويلة؟.. أمينة الفتوى تجيب    دعاء مؤثر من أسامة قابيل لإسماعيل الليثي وابنه من جوار قبر النبي    انطلاق اختبارات مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن بكفر الشيخ    ما حكم المشاركة في الانتخابات؟.. أمين الفتوى يجيب    د.حماد عبدالله يكتب: " الأصدقاء " نعمة الله !!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بيوت الحزن فى انتظار عودة «الغائبين»: «ياصورة صاحبك فين؟»
نشر في الوطن يوم 28 - 04 - 2015

صورة الشاب «بطرس» تجاور صورة «العذراء» وهى تحضن السيد المسيح على حائط المنزل، الصورة هى آخر ما تبقى من الشاب الذى يتأبط ذراع صديقه فى رحلة إلى الموت. يظهر الشابان بجوار الصليب المعلق فى محاولة بائسة لتزيين مشهد الجدران غير المطلية فى المنزل الفقير شبه الخالى من الأثاث إلا القليل.
وتحت الصورة، يجلس والده «خيرى جميل» على أريكة متهالكة، بجلبابه الأزرق المخطط، والشيب المنتشر فى رأسه ولحيته الكثة، وفى يده التليفون يداوم على الاتصال بصاحب الصورة «بطرس» ذى ال18 عاماً يتسمّع إلى رنات هاتفه الصامت، بأمل، معلقاً: «يمكن يرد عليا».
وعلى الرغم من مرور 7 أشهر على رحيل نجله «بطرس»، متوجهاً إلى إيطاليا برفقة 26 من شباب مدينة أبنوب شرق أسيوط، و20 من القرى المجاورة لها، على متن أحد قوارب الهجرة غير الشرعية، ولم يظهر لهم أثر حتى الآن، فإنه ما زال لدى الأب «أمل ما».
لم ييأس الأب المكلوم، لم يفقد الأمل فى عودة نجله الغائب، أو وصوله إلى إيطاليا سالماً، لا يُصدق أن يكون البحر قد ابتلع جسده النحيل، ولم يقم سرادقاً لاستقبال المعزين كبقية الأهالى الآخرين الذين فقدوا الأمل فى عودته أبنائهم.. يقبع «خيرى» صاحب ورشة النجارة، مطأطئ الرأس، دامع العينين، لا يستطيع أن يحافظ على هدوئه، بل يصيح بين الحين والآخر، ولا يقوى على الحديث، لكنه يداوم على ترديد هذه الجملة طوال الوقت: «ما دام تليفونه لسه بيرن، يبقى لسه عايش، أكيد ماماتش».. وهو يؤمن بعودة الابن بعدما طمأنه قس كنيسة «أبنوب» برؤية فى منامه: «ماماتش، أنا متأكد، وأبونا قال لى ابنك ماماتش، وشافه فى المنام.. ورؤية أبونا مابتكدبش».
ينادى «عم خيرى» على الأم «شادية»، السيدة الأربعينية، بملابسها الرثة، وهى تحافظ على هدوئها، عكس الأب المنهار، وتبدو متماسكة أكثر، تروى محاولتها مع نجلها، لشهور، لإثنائه عن حلمه بالسفر إلى إيطاليا كبقية شباب «أبنوب»، فمنذ أن تخرّج فى إحدى المدارس الفنية، ولم يجد أى عمل سوى الجلوس برفقة أبيه داخل ورشة النجارة، وهى الوظيفة التى تروق له ولم تحقق حلمه فى الزواج الذى يتمنّاه.
دخلت الأم فى شجار مستمر لإقناع نجلها بالعمل مع والده فى ورشة النجارة وإبعاد فكرة الهجرة إلى إيطاليا، وتقول مقطبة الحاجبين ل«الوطن»: «ماكنتش موافقة.. قلت له ماتروحش هناك.. قال لى مفيش هنا شغل يا أمّه ومش هقعد جنبك، هتجوز إزاى وأعيش إزاى».
وحينما كان «بطرس» يرى صور زملائه فى «مدرسة الصنايع» بعد وصولهم إلى إيطاليا على صفحات «فيس بوك»، بملابس مهندمة وداخل البيوت الأنيقة، تشتعل الغيرة فى نفسه، ويستشيط غيظاً، وهى تحاول أن تهدئ من روعه، لكن دون جدوى: «يا بنى السفر تعب ومرار»، فيقول لها «أنا غاوى تعب»، حتى اتفق مع زملائه ال26 على الرحيل إلى إيطاليا، بالاتفاق مع «سعداوى»، أحد أكبر سماسرة الهجرة غير الشرعية فى أبنوب.
كان «بطرس» ساخطاً على عمل والده، حسب رواية السيدة الأربعينية، فلم يكن يحب أن يعمل بالنجارة، وغير قانع بما تدره من أموال عليهم تكفيهم بالكاد على المعيشة: «كان بيقول فلوس الكام باب والشباك إلى بنبيعهم مايكفوش حق جوازى.. 30 جنيه فى اليوم هتكفى مصاريفى ولّا تكفى مصاريف تشطيب شقة ولّا فرح»، وترد الأم: «يا بنى اللى تحبك تعيش معاك على قد حالك بالقليل».. وتستطرد: «زهقت من الكلام معاه عشان يصرف نظر عن السفر، بس كل ما يشوف العيال راجعة من إيطاليا والفلوس بتجرى فى إيديهم يتجنن».
جمع الأب والأم كل ما لديهما من أموال «تحويشة العمر»، وباعا كل ما يمتلكانه، بجانب اقتراض مبلغ آخر من جيرانهما من أجل جمع المبلغ المطلوب لسمسار الهجرة، وهو 20 ألف جنيه، لكى يوافق على سفر نجلهما عبر أحد القوارب إلى إيطاليا خلال الرحلات التى ينظمها كل شهر: «جمعناهم من لحمنا الحى.. استلفنا وجمعنا الفلوس عشان نرضيه».. وكان يعدهما بإرسال كل الأموال التى اقترضاها من جيرانهما بعد عمله فى إيطاليا.
ومرت 7 أشهر منذ خروج الشبان من البلد فى أغسطس 2014، واختفى «بطرس» وزملاؤه، فلا يعرف الأب والأم طريقاً لنجلهما، فلا هو مات مثل بعض من أبناء أهل القرية الذين يموتون فى الطريق، ولا هو ما زال حياً، أو حتى يعرفا له مكاناً، بل الأكثر من ذلك ما يثار من تكهنات عن مكانهم: «عايزين نبيع روحنا عشان نشوف عيالنا»، فالبعض يتحدث عن اختطاف فى ليبيا، وهو ما يستدعى مصير 21 قبطياً ذبحهم تنظيم داعش فى ليبيا مؤخراً.
والبعض الآخر، كما يقول الأب، يتحدث عن «بيع الشبان لتجار الأعضاء البشرية، اللى بيغرق فى البحر بيتعرف.. لكن إحنا لا عارفين ميتين ولا حيين، ولا أى حاجة عنهم»، فيما تشير أصابع «خيرى» وباقى الأهالى نحو سمسار الهجرة غير الشرعية بالاتهام، وتؤكد الأم أنه ما زال يعيش وسط أهله بالقرية دون أى قلق، ولم تقبض الشرطة عليه حتى الآن.
وداخل أحد الأزقة الضيقة، يركن «إسحاق النمر» دراجته البخارية، التى يمر بها على منازل المفقودين لكى «يجمعهم دوماً على قلب رجل واحد»، كما يقول خلال رحلة البحث عن شقيقه «عصام» والمفقودين معه فى رحلة الموت.
يدخل «إسحاق» غرفة استقبال الضيوف فى منزله متوسط الحال، الذى تحسّن حاله خلال سنوات عمله فى إيطاليا قبل نحو 10 سنوات، تاركاً شقيقه وقتها وهو لم يكمل عامه السابع، ليعود إلى العيش بين أسرته، وبعد نهاية سنوات الغربة، ليفاجأ بشقيقه يسير على دربه، بحثاً عن رحلة متاعب أخرى فى إيطاليا.
«إسحاق» العائد من إيطاليا لتوه يجلس داخل منزله، ومن خلف جدار حافل بصوره هناك، يقول ممتعضاً إن هناك اتفاقاً تم بين المجموعة المفقودة داخل مدرسة «أبنوب» الصنايع، للهجرة إلى إيطاليا، وتواصلوا مع سمسار الهجرة غير الشرعية «س»، الذى يحفظ «إسحاق» اسمه الحقيقى بالكامل عن ظهر قلب.
بدأت الحكاية عقب عودة «إسحاق» من إيطاليا قبل شهور، حيث فوجئ بشقيقه يحاول السفر إلى إيطاليا، لكنه رفض أن يسلك أخوه نفس طريقه: «الوضع هناك مابقاش حلو.. وأنا منعته من السفر مرة واتنين وتلاتة»، لكن مع الوقت لم يستطع «إسحاق» الوقوف أمام رغبة أخيه: «كان بيقول إنا هنا ميت وفى البحر برضه ميت.. سيبونى يمكن أعرف أوصل والدنيا تفتح لى دراعاتها، خاصة أن القانون الإيطالى يسمح بدخول المهاجرين الأقل من 18 عاماً، ويلحقهم بمدارس الصليب الأحمر، ويوفر لهم فرص عمل مناسبة لسنهم».
بدأت رحلة «عصام» ورفاقه يوم 28 أغسطس العام الماضى، تحرّكت المجموعة من أبنوب صوب الإسكندرية، وسكنوا هناك فى إحدى الشقق بشارع خالد بن الوليد، التى يمتلكها السمسار حتى 6 سبتمبر، ثم توجهوا إلى مدينة رشيد، حتى ينقلهم أحد قوارب الصيد إلى إيطاليا: «عصام اتصل بى آخر مره فى 6 سبتمبر، ومن ساعتها مانعرفش عنه حاجة»، مشيراً إلى أن السمسار كان يعرف خط سيرهم ويتابعهم بالاتفاق مع شركائه فى مدينة «رشيد» من بحارة القوارب، وأنه الوحيد الذى يعرف سر اختفائهم حتى الآن.
30 ألف جنيه هى تعريفة الوصول إلى إيطاليا من مدينة «أبنوب»، حسب قول «إسحاق»، يدفع منها الأهالى 20 ألفاً قبل السفر، وحين يصل الصبية إلى إيطاليا يبدأ «س» ورجاله فى طرق أبواب ومنازل أهالى المسافرين، للحصول على العشرة الباقية: «لما يبقى عارف ومتأكد أنهم وصلوا، يخبّط على باب البيت ويقول له ابنك كلمك وطمنك إنه وصل، هات بقى باقى الفلوس».
ويحاول بعض أهالى القرية التهرّب من دفع باقى المبلغ: «الناس مامعهاش، هتجيب منين»، لكن «س» يُهدد المتهرّبين من دفع باقى المبلغ بإعادة أولادهم من جديد إلى أبنوب: «يقول أنا عندى القدرة أرجعهم تانى من إيطاليا».
لكن هذه المرة لم يصل الشباب إلى إيطاليا، لذلك لم يستطع السمسار الاقتراب من أبواب الأهالى، بل انعكس الأمر، وبدأ «عصام» وأهالى الأولاد فى طرق منزله، الذى سرعان ما هرب منه إلى فيلا يمتلكها داخل الزراعات فى إحدى القرى المجاورة لهم فى «عرب العوامر»، التى لا يستطيع أحد الوصول إليها، حيث إنها حسب قوله «مدجّجة بالسلاح والرجال الذين يحمونه، عندنا عزت حنفى تانى، بس المرة دى بيتاجر فى عيالنا، مش فى المخدرات».
يرن هاتف «إسحاق» بإحدى الترانيم المسيحية، يهاتف الرجل أحدهم ويخبره بفشل الشرطة للمرة الثالثة فى القبض على السمسار الذى بدأ أهالى ال26 شاباً فى ملاحقته بعدما أعطاهم وعوداً كاذبة بعودة أولادهم خلال شهر واحد فقط، لكن مر الشهر ومن بعده أخبرهم أن المجموعة قُبض عليها من قبَل الحكومة الإيطالية، وسيتم حبس الشبان لمدة 3 أشهر، وظل يمر الوقت شهراً وراء الآخر و«لا حس ولا خبر عن الأولاد»، فاتجه الأهالى، حسب رواية «إسحاق»، إلى تقديم بلاغات ضده فى قسم الشرطة، لكن سرعان ما تنازل الأهالى عن البلاغات بعد تهديدات من السمسار: «قال لهم كل واحد اشتكانى هحرق له بيته وهموت له ولده.. وأنا عارف كويس هما موجودين فين»، مهدداً إياهم بعلاقته بضباط مركز أبنوب، قائلاً لهم، حسب «إسحاق»: «المركز فى جيبى»، والأهالى لا حول لهم ولا قوة.
ويمسك «إسحاق» بصورة شقيقه «عصام»، الغائب منذ 7 أشهر، وهو يقول بامتعاض: «بعد 3 شهور، اعترف السمسار أنه مايعرفش ليهم طريق»، فبدأ الأهالى فى تقديم بلاغات أخرى، والتواصل مع وزارة الخارجية فى القاهرة، التى لم تتوصل إلى معلومات عن المفقودين حتى الآن، خصوصاً بعد حادث الأقباط المذبوحين على أيدى «داعش»، لكن عاد السمسار لتهديداته الأهالى بحرق بيوتهم وذبح أولادهم وأنه «يعرف مكان العيال وهيذبحهم لو ماتنازلوش عن المحاضر».
فى جانب آخر من القرية، يتشح نساء عائلة «علم» بالسواد، ففى كل منزل من بيوت الأسرة مفقود.. 7 من شبابها فقدتهم العائلة دفعة واحدة، بعدما اتفق أولاد العم على السفر معاً لانتشال العائلة الكبيرة من الفقر الذى ألم بها، لتعيش العائلة بعد فقدانهم حياة بلا مستقبل، ومع مرور أكثر من 7 أشهر على اختفائهم، تملك منهم اليأس، فأقاموا السرادقات لاستقبال العزاء فى المفقودين السبعة.
عدد من الممرات الطينية شديدة الضيق، تزدحم بمنازل العائلة، وفى نهاية الممر الأخير، يقع منزل «حمدى حنيد»، والد «إيهاب»، أحد المفقودين من العائلة، يجلس الرجل على أريكة خشبية، بجلبابه البنى الرث، وشاله الرمادى، وعباءته المهترئة، وبلهجة صعيدية مليئة بالحزن يقول: «لازم كنا نعمل صوان ونستقبل العزاء، العيال راحوا.. عيالنا راحوا خلاص»، ويستطرد: «ده اللى تغيب عنه فرخة بيسأل عليها بعد تلات أيام.. ده راجل ملو هدومه عنده 17 سنة غايب من سبعة شهور.. إزاى مانستقبلش عزاه».
ويتذكّر الرجل حين جاء السمسار وجلس معهم على نفس الأريكة، ووعدهم بوصول أولادهم بالسلامة، وكلّف والده بجمع الأموال المتبقية من العائلة بعد وصول الأولاد، وذلك قبل رحيلهم بأيام: «10 آلاف جنيه على كل رأس، باقى الفلوس اللى مادفعنهاش.. واللى يقصر كان بيهدد إنه هيرجع ابنه من إسكندرية».
ويشير الرجل بسبابته إلى حوش البهائم الفارغ «بعنا البقرة اللى حيلتنا عشان نكمل له الفلوس»، وأخذ السمسار وقتها، خلال جلسته مع العائلة، يصف فى جودة المراكب التى ستحمل أولادهم إلى إيطاليا: «قال لنا بواخر سياحية زى الفل ومستحيل تغرق».
«الناس كلها عندها مصيبة واحدة، وإحنا عندنا بدل المصيبة سبعة».. يقولها «حمدى» الأب المكلوم، مشيراً إلى فقدان عائلة «علم» جيلاً كاملاً من أولادها: «بدل ما يرفعونا السما.. موتونا خالص». وتقاطعه «صباح أنور» زوجته وهى تصيح والدموع تنهمر على وجنتيها: «كان آخر مرة أسمع صوته فى اليوم الشؤم اللى سافروا فيه.. قال لى يا أمّه آدينى هطلع المركب، ولما أوصل إيطاليا هبعت لك تمن البقرة»، يصيح فيها الرجل ويطالبها بأن تهدأ وتتوقف عن العويل والصراخ.
«صباح»، السيدة الخمسينية، تجلس على مبعدة من جلسة الرجال، بوجهها الذى لوحته الشمس، متشحة بالسواد، وتضع فى فمها طرف الشال الأسود وطرفه الآخر فى يدها، تشعر دوماً بالاضطهاد، فهو شعور يلازمها، وورثته لنجلها الذى رغم حصوله على مجموع فى «الثانوية» كان يضمن له دخول كلية الهندسة، إلا أنه لم يحاول، واختار الطريق الأسهل للحصول على الأموال: «المدرس يقول له أبوك إيه صنعته.. يقول له الواد أبويا فلاح.. فيقول له فلاح وشاطر الشطارة دى».
ويؤكد الأب بعينيه الزائغتين، كلام زوجته: «إحنا مش واخدين حقنا، لا هنا ولا هنا»، مشيراً إلى الشكاوى والمحاضر التى حررتها العائلة ضد «س»: «يعنى قول لى حتى حق عيالنا مش عارفين ناخده.. الحكومة مش عارفة تقبض عليه يعنى!!.. إحنا مالناش حقوق، حقنا عند ربنا.. ده راجل فاجر وقادر».
ويطرق أحدهم باب المنزل الخشبى المتهالك بقوة، فيكاد الباب يسقط من عنف الطرقات، ويدخل «مدحت الباشا» والد «ماركو»، يسلم على ابن عمه «حمدى»، ويجلس إلى جواره، ويأخذ منه طرف الحديث، عن فقدان أولادهم، ويقول بلهجة صعيدية: إن «نجله أصبح مجنوناً بفكرة السفر، بعدما أرسل له زملاؤه فى المدرسة صورهم من إيطاليا بعد سفرهم إلى هناك للعمل، لكن الأب واجه نجله المفقود بالضرب وطرده من المنزل، من أجل إبعاده عن السفر إلى إيطاليا، لكن محاولته لم تجدِ نفعاً، فاضطر الأب إلى جمع 20 ألف جنيه ليحقق لنجله ذى ال15 عاماً حلمه بالعمل فى أوروبا.
وعلى بعد 3 كيلومترات من «أبنوب» تقع قرية «عرب الأطاولة»، التابعة لمركز الفتح، وفى منزل يظهر عليه أنه مملوك لأسرة متوسطة الحال تجلس «رسمية»، السيدة العجوز، والتجاعيد تخط سنوات العمر على وجهها، داخل منزلها الكبير، الذى رفع أعمدته عدد من أبنائها بما جمعوه من أموال خلال سنوات عملهم فى ليبيا، حتى جاء الدور على نجلها الصغير «رومانى عايد»، الذى خرج مهاجراً إلى إيطاليا مع بعض من زملائه فى المدرسة، لكنه لم يكمل ثلاثة أشهر حتى عاد مرحّلاً إلى مصر: «رجّعوه عشان سنه فوق العشرين». ولكن الشاب الذى أكمل عقده الثانى للتو، لم ييأس وقرر إعادة الكرّة مرة أخرى، لكن والدته العجوز وأشقاءه رفضوا ومنعوه من السفر، خاصة بعد ذبح الأقباط فى ليبيا.
وتستيقظ السيدة العجوز فى 28 أغسطس من نومها، لكن يومها لم يكن مثل كل صباح، حيث وجدت أصغر أبنائها يحضّر حقيبة ملابسه، حسب روايتها، وتسأله: «رايح فين يا بنى ع الصبح؟»، فيطمئنها أنه عائد إلى عمله القديم فى أحد معارض الملابس فى مدينة «ملوى» بالمنيا، الذى انقطع عنه منذ رحلة السفر الأولى: «قال لى أنا 15 يوم وهرجع عشان فرح بنت عمى».
ومر يوم وآخر وهاتفها نجلها ليقول لها إنه قرر أن يعاود محاولة السفر إلى إيطاليا مرة أخرى، فأخذت الأم تتوسل إليه بالعودة والعدول عن قراره، لكنه لم يسمع لها: «انزل يا بنى وعاود.. قال لى ادعى لى يا أمّه.. يا حبيبى انزل وعاود، قال لى قولت لك ادعى لى يا أمى، ومن ساعتها مارجعش تانى».
وداخل الدوار الكبير، يجلس الأب المكلوم «عايد عشم الله» صامتاً على الدوام، لا يتحدث إلى أحد، وإلى جواره يجلس ابنه الأكبر «نشأت»، يتحدث بكلمات مرتبة ومنمّقة، عن أزمة اختفاء أخيه وأحد جيرانه من القرية ضمن 46 من المفقودين فى رحلة الموت إلى إيطاليا: «العملية واقفة خالص.. مفيش رزق.. عشان نبنى بيوتنا سافرنا ليبيا»، ويقول إن بلدته قرية فقيرة ولا توجد بها أى فرص عمل: «الشباب كلهم فى قريتنا بيحاولوا يسافروا، إن ماكانش ليبيا أو إيطاليا، يبقى القاهرة».
وفوجئ «نشأت» وأسرته بسفر أخيه، حيث أخبره فقط وهو على متن المركب فى «رشيد»، واستطاع الحصول على الأموال من شقيقته، حيث اقترض منها المبلغ ووعدها بإعادة المبلغ المطلوب فى الرحلة بعد الوصول إلى هناك: «بهدلنا أخته أنها إدته فلوس عشان يسافر بيها».
ومن يومها يعانى «نشأت» وعائلته بحثاً عن شقيقه، سواء على سواحل ليبيا أو فى إيطاليا: «إحنا مش عارفين هما فى ليبيا ولّا إيطاليا، ولا حد راضى يجاوبنا على السؤال ده، ماسيبناش جهة حكومية رسمية إلا وخبطنا على بابها.. ومفيش فايدة».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.