عقارب الساعة تشير إلى السابعة صباحا، معلنة بداية نهار جديد في حياة "سمير حنفي"، يخرج من بوابة منزله في حي عابدين، متجهًا ل"مطرح أكل عيشه"، المقهى البلدي القابع على ناصية شارع منصور، يرفع بابها الحديدي الجرار، وهو يتمتم تعويذة رزق يحفظها عن ظهر قلب "استعنا على الشقى بالله، يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم، ابعت يا رب"، بعدها يضغط زر التلفاز على قناة تلاوة "القرآن الكريم"، يشمر عن ساعديه، ويرتب "كراسي وترابيزات" المقهى الخشبية، ترتيب القطع الشطرنجية، ينصرف بعدها ل"البوفيه" يعد "نصبة الشاي"، ورنين معلقته على كوب الشاي، نداء لزبائنه من أصحاب "الطرابيش البيضاء"، جلساء المقهى منذ أكثر من أربعة عقود، فرؤيتهم كانت تقليدًا يوميًا لصبي كان يلهو في شوارع عابدين، واحتفظ بها في شبابه، حتى جاء يوم عمله بالمقهى، يتعايش معهم، يشاركهم همومهم وفرحاتهم، ويسمع حكاويهم. "هنا كان يقعد الطباخين، وعشان كدة اتسمت القهوة باسمهم"، يقولها "عم سمير"، الذي تحول من "نادل" بالمقهى، في تلك اللحظة إلى "راوٍ" في محكى، يؤرخ أطلال أهله، "كان زمان الطباخين بيملوا القهوة هنا، تلاقيهم هنا من الساعة 8 الصبح، لحد ما ييجوا هنا يطلبوهم، وزباينهم كانوا أمراء عايشين في الزمالك وجاردن سيتي من ريحة الأسرة المالكة، وبشوات من الإقطاعيين أصحاب القصور والعزب، وسفارات أجنبية، وكمان كانت بتطلبهم الفنادق، والناس بتبعت لهم في الأفراح، وكانت القهوة بيتهم، هنا كان أكلهم وشربهم وقعدتهم، وكانوا يقعدوا فيها للساعة 4 العصر، وساعات لحد بالليل في انتظار رزقهم". يعود "سمير" بذاكرته، لعقد مضت أيامه وبقت حكاويه، "وقت ما رجلهم بدأت تخف عن القهوة، منهم اللي مات، ومنهم اللي تعب، وقعد في البيت، ونادر لما تلاقي حد منهم ييجي دلوقت، ومع كدة لحد النهاردة في زباين بتيجي تسأل عليهم"، فسمعة وشهرة المقهى باقية على "حس الطباخين"، فرغم أن المقهى بلدي، والمنطقة شعبية، إلا أنها كانت قبلة المشاهير من الفنانين والطبقات الاجتماعية الراقية، قاصدين روادها من الطباخين، الذين وصل شهرة بعضهم للتليفزيون، كما يحكي "النادل" الذي وصل عامه الخمسين، "بعضهم كان بييجي في التليفزيون والراديو، فاكر أسماء ناس منهم، في واحد اسمه عبده سند كان بيطلع في التليفزيون مع الناس الكبار، وكان في الحج حسن طباخ الأمرا، وغيرهم، كانت القهوة دي مليانة طباخين جوه وبره". "أيام السادات كان الطباخين كتير أوي، يعني كان عصرهم الذهبي"، يقولها "سمير" وهو يترحم على الرئيس الراحل، ويواصل الحديث: "كانت أيامه هنا وخير، وكان الطباخين رجلهم متتقطعش عن القهوة، ولا الزباين، كانت الناس عيشتها مرتاحة عن دلوقتي". وصلة من الذكريات الجميلة، يعيش عليها نادل مقهى "الطباخين" إلى الآن، فلا يذكرهم إلا بالخير، ولا يتمنى سوى رؤية من يذكره بهم: "كانوا ناس طيبين جدًا، وكنت أقعد معاهم ويحكولي عن القصور الفخمة اللي كانوا بيروحوها، وأفراح الناس الأكابر، والتعامل مع الأمرا والباشوات، وكنت أقعد ألعب معاهم طاولة ودومنة، لحد ما ييجي الشغل أو يروحوا".