وبينما نحن فى منتصف وجبة الفطور إذ بعباءة سوداء يظهر منها وجه امرأة تظهر فجأة من خلف الباب الزجاجى الداخلى للمنزل. استغربنا، بل بُهتنا، ووقفت لقيمات الطعام فى حناجرنا رعباً من هذه المرأة، ماذا تريد، بل وكيف دخلت المنزل أساساً؟! ما زالت المرأة تنظر بفضول خلف الزجاج وتعاكسها أشعة الشمس المنعكسة عليه، فتميل بزوايا مختلفة على الباب هى والصينية التى تحملها مستعينة بإحدى يديها لحجب الأشعة المشعة، فأصبحت مستلقية على الزجاج بوجهها وكفها وعباءتها، أما نحن فقد تجمّعنا فى ركن واحد إذعاناً لإشارة أمى لنا بسرعة الوقوف بعيداً عن مصدر الخطر. فتحت أمى الباب الزجاجى للمرأة بحذر وبهلع (فالهلع وأمى صديقان) وحاصرتها أمى بالأسئلة: من أنت؟ وماذا تريدين؟ وبقى أن تلقيها أرضاً وتربط ذراعيها خلفها مصوبة الملعقة إلى رأسها! وهنا انطلق لسان المرأة بلهجة لم نفهم منها شيئاً، ففى الثمانينات كانت اللهجة الخليجية بالنسبة للمصريين كالروسية تماماً.. طلااااسم. وبعد جهد جهيد فهمنا أنها جارتنا وجاءت ترحب بنا وتتعرف علينا وتقدم بعض الحلوى البحرينية اللذيذة، وكانت البداية، بداية انخراطنا فى المجتمع البحرينى الطيب الودود. ومن يومها تعلمنا إغلاق الباب الخارجى للمنزل، ففى البحرين وقتها كانت كل البيوت مفتوحة وجميع الجيران أسرة واحدة، بالطبع لم يكن الأمر اقتحاماً، ولكنه استئذان من نوع خاص لا يعترف بالأجراس أو الأبواب. لقد كان أشبه بالطريقة المصرية القديمة فى الريف، ولكن بدلاً من «الصقفة ويا ساتر»، كانت تطلق كلمة «السلام» وهى اختصار للسلام عليكم ولم تكن الأبواب تغلق أبداً، إلا عند النوم فقط. ومن محاسن الصدف أن سكننا أو منزلنا ذا رائحة التفاح كان فى منتصف منازل البحرينيين، أبناء البلاد الأصليين، وكانت تركيبة الفريج أو الحى الذى نقطن به ثرية متنوعة ساهمت بشكل أو بآخر فى فهمنا الشديد لذاك المجتمع بل والانصهار به إلى أقصى حد، كان بذلك الشارع فى «مدينة عيسى» كل أطياف الشعب البحرينى وجميع طبقاته المادية والتعليمية، فكان بين جيراننا السنى والشيعى، العربى والإيرانى والهجين بين بين، ومن هم من أصول عراقية أو فلسطينية أو هندية أو آسيوية أو حتى إنجليزية، كان بجوارنا القصر والبيت المتواضع، كان هناك منزل ل«طبيلته» أو لجراجه أسطول سيارات فارهة وآخر تقف أمامه فى خجل وتواضع سيارة «وانيت»، نصف نقل يُرزق صاحبها من ورائها، كل شىء كان فى حينا الجميل، لم نغترب بتلك البلاد يوماً ولم نشعر فى وسط أهلها إلا بكل مودة وحب واحترام، ولكن كنا الاستثناء ولسنا القاعدة، فالجاليات عادة ما تتجمع فى مدن معينة أو فى بنايات متقاربة من بعضها البعض، وعادة ما تنغلق تلك الجاليات على نفسها ولا تتواصل مع سكان البلاد الأصليين أو المواطنين، فالأمر هكذا آسلم وآمن، كما أن الاغتراب فى نظرهم لفترة معينة يتحينون الفرصة فيها للعودة للوطن بعد أن تستوفى فترة عملهم، كذلك المواطنون يتعاملون مع الجاليات المقبلة لبلدانهم للعمل بها بطريقة مختلفة عما يتعاملون به مع بعضهم البعض، بل هم يميزون بين جالية وأخرى، وهذا التفاوت فى المعاملة والسلوك يرجع إلى كذا سبب، ومن أهم تلك الأسباب درجة وعى وإدراك وثقافة المواطن صاحب البلاد الأصلى، وكذلك هيئة وسلوك وأسلوب المغترب. كان المنزل ذو رائحة التفاح أحد منازل تلك البلاد الصغيرة التى تقع على شاطئ الخليج العربى وما زال للمنزل وبلاده الكثير من الحكايا ولدىّ معهما تاريخ حلو وأيام حبيبة ولتحلو الحكايا وينسجم الخيال لا بد من تقديم عرض سريع وموجز عن البحرين، عروس الخليج وموطن اللآلئ والتراث والأصالة، والشقيقة الصغرى والابنة المدللة لكل دول الخليج، لهذا كونوا معنا فى حلقة الأسبوع المقبل.