أمتنا أمة اليتم فى أيامنا هذه، فأكثر فترة انتشر فيها اليتم هى ما بعد ثورات ما سمى «الربيع العربى» الذى تحول إلى «زمهرير عربى»، ففى سوريا جاوز عدد القتلى الموثق رسمياً ثلث المليون، ونصف هؤلاء تركوا أيتاماً.. ومن الثوار فقط تم توثيق أكثر من 127 ألف قتيل.. أما جمعية الشام للأيتام فلديها 62 ألف يتيم.. وهذا بخلاف الأيتام الذين يعيشون فى بلاد أخرى. أما عدد القتلى فى ليبيا منذ اندلاع الثورة وحتى اليوم فجاوز 50 ألفاً ونصفهم ترك أيتاماً. وفى العراق وصل عدد القتلى المسجلين رسمياً خلال السنوات العشر الماضية قرابة 170 ألفاً بخلاف من قدموا من بلاد بعيدة.. هذا فضلاً عن جبهة اليمن التى فتحت باباً جديداً للموت واليتم.. ناهيك عن مصر التى فتح الموت فيها أفرعاً جديدة منذ بداية الثورة وحتى اليوم، وخلف وراءه أيتاماً وأحزاناً وآلاماً.. وهكذا امتلأت بلادنا نحن العرب بالأحزان والصراعات والقتلى والأيتام. فما أكثر اليتم فى بلادنا، وما أشق الحياة وما أقساها على اليتيم الذى يكابد مشقة الحياة وصعوباتها وأزماتها وتقلبها وعسرها وجفاءها وغلظتها بعد رفقها وتلطفها. فإذا تأمل اليتيم حاله لن يجد له نصيراً ومنصفاً سوى القرآن الذى منع عنه الغوائل ورد عنه المكائد وصد عنه طمع الطامعين.. فما أشد حفاوة القرآن باليتيم عامة وبالنبى اليتيم خاصة.. وكأنه يقول لكل الأيتام «لا تحزنوا فأفضل وأشرف الخلق وأقربهم منى مكاناً هو يتيم مثلكم.. والقرآن خاطبه وكل يتيم: «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى»، فلولا الله الذى رفق القلوب على اليتيم ما آواه ولا كفله أحد. ولو أدركوا دفاع القرآن عنهم لجعلوه تاجاً فوق رؤوسهم ولقبلوه صباح مساء، فقد هتف القرآن بندائه الرائع الذى زلزل البشرية كلها «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ»، فهو لا يهتم بإطعام اليتيم أو ملابسه أو تعليمه فحسب لكنه يهتم بنفسيته وروحه وعدم قهره أو إذلاله معنوياً ونفسياً. لقد ذم القرآن من لا يكرمه: «كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ».. وجعل إطعام اليتيم وكفالته واجباً على ذوى قرباه وأوليائه الأدنى فالأدنى «يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ». وعلى كل يتيم أن يحتفى ويحتمى بهذه الآية العظيمة تجاه كل من يريد أن يبخسه حقه أو يأكل أمواله.. إنها الصاعقة التى تصعق آكلى أموال اليتامى «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً * وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً». إنها تفزعهم وتقرعهم عندما يتخيلون النار التى تحرق بطونهم.. والسعير الذى سيصلاهم لاعتدائهم على مال اليتيم الذى لا يستطيع الدفاع عن نفسه وماله.. فيسخر الله النار الموقدة لتدافع عنه وعن ماله.. فهم لا يأكلون المال لكنهم يأكلون النيران التى تشوى بطونهم وجلودهم، وتشوى أفئدتهم وضمائرهم فى الدنيا. ما أحوج الأمة الآن لرعاية يتامى أمتنا، وما أحوجها ليوم اليتيم، ولنداء النبى العظيم (صلى الله عليه وسلم) وهو يخاطب الدنيا كلها فى الحديث الرائع الذى رواه البخارى، الذى يسبه البعض الآن ظلماً وبهتاناً: «أنا وكافل اليتيم فى كهاتين الجنة (وأشار بالسبابة والوسطى)». وقد أعجبنى قول العلامة ابن بطال شارحاً له «حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبى فى الجنة فلا منزلة فى الآخرة أفضل من ذلك». والسر فى الحديث أن كافل اليتيم له حظ من كفالة النبى ورعايته لقومه، فتشابها فى العمل والأجر والمآب. وهذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينادى الدنيا كلها عبر البخارى مرتباً فقه الأولويات: «الساعى على الأرملة والمسكين كالمجاهد فى سبيل الله (وأحسبه قال وكالقائم الذى لا يفتر وكالصائم لا يفطر)». وكل الذين يرحمون الأيتام أو يسعدونهم بأى طريقة يسعدهم الله ويذهب همهم وغمهم وقسوة قلبهم، وهذا المعنى تحدث عنه النبى (صلى الله عليه وسلم) فقد جاءه رجل يشكو قسوة قلبه، فقال له: أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك. وفى حديث آخر: «من مسح رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات». ورحم الله الإمام على الذى كان يقول: «ارحموا الأرملة واليتيم».. ويقول «الله الله فى الأيتام.. فلا تعفو أفواههم ولا يضعن بحضرتكم». وعلى كل يتيم أن يفرح ولا يحزن وأن يأمل ولا ييأس فقد حفل سجل العظماء الكبار بمئات اليتامى وعلى رأسهم النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) الذى عاش يتيم الأبوين ومنهم الصحابة الزبير بن العوام وأنس بن مالك وأبوهريرة وعبدالله بن جعفر الطيار وزيد بن أرقم. ومن العلماء العظام سفيان الثورى والقاسم بن محمد بن أبى بكر والإمام مالك وأحمد بن حنبل والشافعى والبخارى والغزالى وابن حجر العسقلانى وابن الجوزى وجلال الدين السيوطى والأوزاعى. ومن المجاهدين والقادة العظام عبدالرحمن الداخل وطارق بن زياد وعماد الدين زنكى وبيبرس. ومن العظماء المعاصرين حافظ إبراهيم وابن باز وأحمد ياسين والملك إدريس السنوسى وجمال عبدالناصر وجورج واشنطن وأبراهام لينكولن وغاندى ومانديلا.