لا أتذكّر أنى رأيتها يوماً عابسة أو شاكية، هى دائماً مبتسمة بشوشة، ضحكتها تسبق صوتها عندما يأتينى فى الهاتف، أو عندما تلتقينى على درجات سُلَّم منزلها حيث تستقبلنى من وقت إلى آخر عند زيارتى لمصر. أنا مفتونة بها حقاً، فحالتها هذه تروقنى جداً، إلا أننى كنت أتعجّب من ابتسامتها وصمتها عندما يستغلها أحدهم ليحصل على شىء ما.. بلغ الأمر منّى غايته يوماً وقلت لها مستنكرة: «إنهم يستغلّون طيبتك يا عزيزتى». ابتسمَت كالعادة وقالت: «ألا يكفينى أن أكون الطرف الذى يعطى فى المعادلة؟ ذلك أفضل جداً من أن أكون الطرف المحتاج.. أليس كذلك؟». وقبل أن تبرد ابتسامتها قلت لها: «إذن أنتِ ممن ينظرون إلى النصف الممتلئ من الكوب كما يقولون». تعالت ضحكتها وقالت: «أتعجب جداً من أجل هؤلاء الذين يشغلون أنفسهم بالنصف الممتلئ والنصف الفارغ من الكوب.. فى رأيى، المهم أن أجد ماءً لأشرب عندما أعطش». مرّ على حوارى معها زمن، إلا أنه يطل على ذاكرتى من وقت إلى آخر.. فبأى منطق تفكر هذه السيدة الأربعينية فى الحياة وسط كل ما تمر به يوميّاً من أزمات عمل وأبناء وزوج وعائلة؟! نعم، حالها كحال الجميع من حيث الظروف الاجتماعية، ولكنها تصنع لنفسها واقعاً مختلفاً.. إنها اختارت أن تعيش حالة من السلام الداخلى مع النفس، فتضع لكل ما يمر عليها أفضل التفسيرات على الإطلاق ليرضى داخلها وتواصل القدرة على مواجهة الحياة. أعرف جيداً أن الوصول إلى هذه المرحلة ليس سهلاً فى واقعنا الصعب الذى نعيشه، كما أننى أعرف أننا جميعاً نريد أن نصل إلى هذه الحالة، فمن ذاقها عرف للحياة لذة أخرى بعيداً عن كل المشاحنات والاتهامات ونظرية المؤامرة هذه التى تسللت حتى إلى بيوتنا. نعم.. لماذا لا نحاول إذن؟ أعتقد أن هناك خطوات بسيطة يمكن أن توصلنا إلى هناك.. حيث ما نريده حقاً من راحة وأمان. أولاً: علينا أن ننظر بعمق مرة أخرى فيما مرّ علينا من تجارب، كيف رأيناها فى حينها، وكيف حَزِنّا يوماً من أجل ما لم نحصل عليه واعتبرناه نهاية الحياة، وكيف اكتشفنا بعدها أنه لم يكن سوى عملية استبدال ما هو أفضل، ولكننا لم نفهمه فى حينه، وكيف كانت هذه الأشياء التى اعتبرناها خسارة هى ذاتها أكبر مكسب فى حياتنا. نحن ندرك الآن أن صورة ما نعيشه هذه اللحظة لم تكتمل بعد.. مَن منّا يعرف المقبل كيف سيكون؟! الخطوة الثانية، أعتقد أننا ينبغى أن نواجه فعلياً ما نمر به الآن، ونعترف أنه واقع وعلينا التعامل معه بأفضل صورة ممكنة، فلن يجدى شيئاً الهروب منه أو رفضه أو حتى عدم الاعتراف به لأننا وببساطة -رغماً عنا- نعيشه الآن. وصلنا إلى خطوة إذا قمنا بها فسنبدأ فوراً فى الشعور بنتيجة فى اتجاه الهدف.. فنحن غالباً لا ندرك قيمة هذه الأشياء الجميلة الموجودة فى حياتنا والنعم المحيطة بنا لأننا تعوّدنا عليها فلم نعد نراها إضافة أو ميزة. تخيّل فقط أن أحد هذه الأشياء غاب عنك: الصحة، الأبناء، الحب، حتى البيت الذى يؤويك، وطعام يومك.. كيف حالك الآن يا عزيزى؟ إذن استمتع بها، وعظّم تقديرك لها، وخذ من وجودها فى حياتك طاقة تدفعك للحياة. الخطوة الأخيرة يا صديقى الطيّب ستلقاها هناك.. فاذهب إليه، وأفرغ كل شحناتك السلبية بين يديه، إذ سيستقبلك دائماً دون موعد مسبق وقائمة انتظار وزيارة محددة بوقت. نعم، ضع كل همومك بين يدى ربك، فهناك ستجد قمة اللذة بعيداً عن الزيف والادّعاء. أعرف أنك تشعر بها الآن، فمجرد الحديث عنها سيملأ قلبك بالسكينة.. اسعَ إذن يا صديقى، فلكل خطوة مذاقها الخاص. أمّا يا صديقى الطيّب إن صادفك أحد هؤلاء الذين وصلوا إلى هذا السلام الداخلى يوماً فتمسَّك به، وافعل كل ما بوسعك من أجل الاحتفاظ به، فوجود أمثالهم فى حياتك يستحق كثيراً، وسيغيّر فى حياتك كثيراً.. فهنيئاً لك مَن وَجَدْتَ.