كانت مصر قبل القمة العربية الأخيرة، أو القمة السادسة والعشرين فى ترتيب القمم، فارساً ترجل مرغماً عن جواده العربى الأصيل، وبدا وحيداً غائباً منكسراً، حتى الجواد نفسه كبا وجثا وضاع صهيله وانفلت زمامه. فى القمة الأخيرة استعاد الفارس زمام جواده، وامتطى صهوته ورفع رأسه يطاول السماء وهو يسمع صهيل جواده المدوى فى البرية، مختالاً فوق دقات سنابكه التى أخذت تهز الأرض هزاً من جديد. وفى القمة الأخيرة بُعثت أحلامُ مجهضة، وتجددت آمالُ طُويت صفحتها يأساً وقهراً، وهبت أمة من رقدة العدم، بعد أن أعلن نزار قبانى -قبل سنوات- «وفاة العرب». استعادة زمام الجواد العربى الجامح الجريح هى -بغير منازع- أعظم نتائج القمة العربية السادسة والعشرين مصرياً وعربياً. فقد عادت القمة بمصر، تنظيماً وحضوراً وتأثيراً وقبولاً، إلى قيادة النظام العربى الذى أثخنته الجراح، وكاد يوشك على الانهيار، وطوقته الحرائق وألسنة اللهب شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وضربته الفوضى المخططة فى مفاصله ومراكز تأثيره من بغداد إلى دمشق وصنعاء ومن بنغازى إلى طرابلس والصومال. جاء العرب إلى القمة فى موعدهم وكذلك جاءت مصر «لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون». جاءت القمة فى لحظة من لحظات توهج الوعى القومى، التى لا تأتى إلا عندما يتهدد الخطر وجود الأمة وحدودها. ومصر العائدة لتوها من عزلة إقصاء جبرى فرضها حكام مستبدون انكفأوا بها داخل حدودها ضعيفة تغرى كل طامع فى وراثة دورها حتى وإن تخيل أنه يملك مقومات الدور ويقدر على تحمل تبعاته، مصر تلك لم تلبث أن تفك عنها -بعد ثورة فتية- أطواق العزلة، وتنفض غبار «الحيدة» التى اضطرت إليها فى عزلتها، حتى تخلت عن دور الشريك، وقبلت بدور الوسيط بين أشقائها وأعدائهم، وراحت تعلن عن نفسها مجدداً شريكاً لا يفصله عن الخطر المحدق بأهله فى المشرق أو فى المغرب إلا «مسافة السكة». وقبل أن تبزغ شمس القمة ويطل نهارها كانت مصر تطوى -فى غمضة عين- مسافة السكة بين القاهرة وصنعاء، تلبى نداء العروبة المهددة بزحف الفرس نحو مياهنا الجنوبية فى باب المندب والبحر الأحمر، تسبقهم أحلامهم الشوفينية فى بعث الإمبراطورية الفارسية وعاصمتها بغداد! التحالف العربى المقدس الذى دك معاقل الحوثيين -أو حصان طروادة الإيرانى فى اليمن- لم يكن حرباً مذهبية بين شيعة وسنة، وما ينبغى له أن يكون، فإيران نفسها تتحرك بدوافع قومية فارسية، حتى وإن توارت هذه الدوافع وراء شعارات إسلامية. إنه صراع قومى، له جذوره التاريخية، التى تستظهرها إيران بين الحين والآخر، بين العرب والفرس، كما عبرت عنها مؤخراً تصريحات مستشار الرئيس الإيرانى للأمن القومى. ومصر الحاضرة بقوة إلى «كابينة» القيادة العربية، لم تكن لتتجاهل هذه المخاطر على الأمن القومى العربى وهى تدعو -بعد انقضاء وقت طويل على معاهدة الدفاع العربى المشترك فى 1953 - إلى تشكيل قوة عسكرية عربية موحدة تترجم الوعى العربى المتنامى بالمخاطر والتهديدات الخارجية والداخلية التى لا يكاد بلد عربى أن يكون فى مأمن منها. أليس تجاوب العرب -باستثناء تحفظات قليلة- مع المبادرة المصرية لتكوين قوة عسكرية مشتركة للتدخل السريع فى مواقع الخطر هو أول إنجاز عملى عربى منذ سنوات طويلة، يحقق طفرة نوعية فى العمل العربى المشترك الذى لم تكن إنجازاته إلا «توصيات غير ملزمة» تتبدد نتائجها فى غبار المعارك والخلافات بين داحس والغبراء وعبس وذبيان، بينما النظام العربى يتصدع ويتآكل ويتسلل إليه الخطر من كل صوب وحدب. قد تكون المرة الأولى -منذ ظهور القمم العربية- التى لا نخيب فيها رجاء المعرى «فنرى طحناً ولا نسمع جعجعة». لا ينبغى أن يلهينا إنجاز كبير مثل هذا -ونحن نفتش فى حصاد القمة عن ثمار طيبة أخرى أو ثمار لم ينضج أوان قطافها، أو عن قضايا لم يرتفع الوعى عند البعض بمخاطرها، أو يتوحد إحساس عام بأن مخاطرها لا تستثنى أحداً مثل مخاطر الإرهاب والتهديدات التى يشكلها استمرار الأزمة السورية وكأن ما يجرى فى دولة عربية محورية مثل سوريا، مؤسسة للنظام العربى قبل سبعين عاماً يحدث فى جزر البهاما! لقد أعطت القمة الأخيرة للأزمة السورية -إن كان ثمة نتيجة لها على هذا الصعيد- بصيصاً من أمل حول حل سلمى فى سوريا. وكان ظهور مقعد سوريا فى القمة خالياً إلا من علم الدولة السورية الرسمية إنجازاً فى حد ذاته -وهو جهد مصرى واع وحكيم- بعد أن اغتصب هذا المقعد فى دورات سابقة للقمة، ممثلون للمعارضة السورية لم يخترهم أحد إلا ممولو الحرب العبثية الغيورون على الديمقراطية وحقوق الإنسان فى سوريا، ولم يجدوا فصيلاً أكثر ديمقراطية وأمانة على حقوق الإنسان من «داعش» و«النصرة» لتسليمهما السلطة فى سوريا. وفى القمة وجدت المعارضة السورية فى «تميم» خير من يمثلها ويتحدث باسمها ويندد بجرائم خصمها ويتجاهل فظائعها وإرهابها، ويرفض -وكيلاً عنها- حلاً سياسياً، يكون الأسد طرفاً فيها، فمع من تريد المعارضة، وفصائلها فى معظمها مشكوك فى توجهاتها الوطنية ناهيك عن الديمقراطية أن تتفاوض؟! البعض يريدها مفاوضات على طريقة جورج الخامس يفاوض جورج الخامس؟! عندما كان العملاء يفاوضون مستخدميهم وأسيادهم! فى «الحدود»، ذلك الفيلم العربى البديع، الذى حفر أخدوداً عميقاً من الألم والحسرة فى مشاعرنا القومية تجاه التجزئة، وتضخم الأنا القطرية نكأ المبدع الساخر دريد لحام جراحنا، وهو يهتف ساخراً باكياً وهو يمزق جواز سفره الذى لطخته أختام السلطات القطرية العربية فصار مثل الوشم الذى يلطخ «وجه الغازية»، و«تحيا الوحدة العربية»! كان الهتاف حنجورياً لا يتجاوز الحلقوم ولا يخرج من القلب. وفى شرم الشيخ كانت الأمة كلها وممثلوها فى قاعدة المؤتمرات الكبرى تهتف ثلاثاً وراء القائد المصرى الجديد الذى استعاد زمام جواده العربى: تحيا الأمة العربية. هذه المرة كان الهتاف من قلب صادق فتلقفته القلوب!