كنت وكثير من بنى بلادى نحلم بعد سقوط دستور نظام يوليو فى طبعته المباركية بنقاش دستورى صريح وراقٍ يضعنا أمام المبادئ والأسس التى يجب أن يقوم عليها وجود واستمرار الجماعة المصرية. هكذا اقتصر حلمى على نقاش دستورى راقٍ، لكننى أبداً لم أتمادَ فى الحلم إلى درجة تخيل أن يكون لمصر بعد الثورة دستور يفوق الدساتير القديمة للبلاد الأخرى فى احترامه للحقوق الفكرية والإبداعية والدينية والاقتصادية/الاجتماعية للمواطنين. فالمجتمع المصرى هيمن عليه تيارات ترتعد بشكل مَرضى من الحرية، ولا تكترث كثيراً بإنصاف المظلومين فى الاقتصاد وفى المجتمع. وضعت إذن سقفاً لأحلامى وجعلتها تقتصر على النقاش الدستورى دون أن تصل إلى الدستور نفسه إشفاقاً على نفسى من الإحباط. لكن هيهات.. ها قد أصابنى الإحباط والاكتئاب، فالنقاش الدستورى الذى حل علينا فى الأشهر الماضية نأى بنفسه فى معظم الأحيان عن طرح القضايا الحساسة كما غلب عليه التعجل وشوّش عليه الخلاف حول شرعية الجمعية التأسيسية التى تكتب الدستور. ولكى أزيد صعوبة الأمر على نفسى تجولت فى مواقع الأشقاء التوانسة على الإنترنت لكى أقرأ مسودة دستورهم وأتابع قليلاً نقاشهم حوله. وكما توقعت.. هم متقدمون عنا سواء فى مضمون الدستور أو فى مستوى النقاش الذى يدور حوله. دستورهم واضح فى تبنيه لمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، ودستورنا متردد ومتناقض فى هذه المسألة وهو غالباً لا يتذكر الشريعة الإسلامية إلا عندما يأتى ذكر المرأة، ولا يتذكرها أبداً حين يتعلق الأمر بالرجل. دستورهم واضح تماماً فى قبوله للحريات الدينية، ودستورنا يمنح الحريات الدينية باليمين ويأخذها باليسار. أما نقاشهم الدستورى فقد وصل إلى دوائر واسعة من الشعب عكس نقاشنا الدستورى الذى اقتصر على طائفة صغيرة من السياسيين والإعلاميين والمهتمين بالشأن العام. لا عجب فى ذلك.. فالمستوى التعليمى فى مصر أقل من تونس والمدى الذى وصل إليه الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة فى علمنة الدولة كان من القوة بحيث أصبح من الصعب النكوص عن كثير من مكتسباته. فقضية حقوق النساء فى تونس ليست قضية حقوق تحاول المرأة الحصول عليها، ولكنها قضية ثلاثة أو أربعة أجيال من النساء تمتعن بحقوق ليس من السهل على أى أحد انتزاعها منهن اليوم. وهذا ما يجعل التيارات المحافظة هناك أكثر حذراً من التيارات المحافظة هنا فى الهجوم على حقوق النساء. لكن لا. يجب أن نتمسك بالحد الأدنى من أحلامنا. يجب أن نتمسك بحقنا وواجبنا فى خوض نقاش صريح ومتحضر فيما يخص نصوص الدستور الجديد. لأن النقاش الدستورى هو فرصة ذهبية للكلام عن أصول وركائز الأشياء. نحن لا نعرف مصير الجمعية التأسيسية التى كتبت مسودة الدستور. لكن ذلك لا يجب أن يدفعنا إلى الاسترخاء فيما يخص مناقشة مضمون الدستور نفسه. فليتواصل الصراع على من يكتب دستور مصر. ولكن بالتوازى مع ذلك يجب أن ننخرط فى نقاش حول المعانى الأساسية والقضايا الجوهرية فى الدستور. ويجب أن نسائل كتاب الدستور عن معنى كل حرف كتبوه. فلنطالبهم بتعريف الدولة التى يتحدثون عنها كثيراً فى المسودة دون أن يكلفوا أنفسهم مرة واحدة بتعريفها. فلنسألهم عنى معنى كلمة «جمهورية».. فلنسألهم عن معنى كلمة «أحكام الشريعة». وفى هذا السياق لا يجب أن ننسى أن المسودة التى طرحوها علينا (بخلاف مسودة تونس) لا تحمل ديباجة أو مقدمة. هل سمعت عزيزى القارئ عن كتاب بدون مقدمة؟ هل بإمكانك أن تتواصل مع كتاب هكذا «خبط لزق» دون تمهيد ودون أن يشرح لك الكاتب ما أنت مقبل عليه. ديباجة الدستور يا سادة لا تقل أهمية عن نصوص الدستور نفسه، فهى تضع الدستور فى سياقه التاريخى وتكشف عن المنطق الحاكم لنصوص الدستور فى إجماله. كنت أحلم أن يتولى صناع الكلمة فى مصر من مستوى بهاء طاهر صياغة ديباجة الدستور. ولكن الأمر انتهى ليس فقط بعدم استدعاء عُمد اللغة فى بلادنا لكتابة الديباجة، لكنه وصل إلى «سلق» الدستور دون ديباجة. أين ديباجة الدستور يا من كتبتم مسودة دستور مصر؟