منذ وعيت، وأنا لا أعرف لماذا؟ وجدتنى أحب سماحة «رفاعة رافع الطهطاوى». وكنت إذا سألنى أحدهم: لماذا؟ أجيبه لأنه رائد التنوير، وبشير التقدم، ومؤسس النهضة الفكرية، وهو الذى نبه المصريين لوجود عالم آخر يموج بالأفكار، وناسه يقيمون حياتهم بجد واجتهاد. أتذكر فى أيام طفولتنا أن شيخ كُتابى، كنت إذا عاكسته قبض على لحيته بكفه وهزها بعصيبة، صارخا فى وجهى: آدى دقنى لو فلحت، من يومها ارتبطت اللحية عندى بخيبة الرجاء والإحباط وعدم الجدوى.. فى الحقيقة أنه عبر سنوات طفولتى، لم أعرف فى قريتنا إلا لحى لأربعة أتذكرهم حتى اليوم. اثنين أحببتهما، واثنين كنت أخاف من لحيتيهما إذا ما قابلانى صدفة!! لحية أستاذى «محمد سالم»، صائم الدهر، الخلوق الذى تعلمت على يديه إنما الأمم الأخلاق، ولحية رجل العلم أبيض اللسان، أبيض اليد، الشيخ «عمر عبيد»، حافظ كتاب الله، والدارس فى الأزهر الشريف. أما اللحيتان الأخريان فكانتا للمأذون الشرعى «على علوان» الطماع، الكذاب، شيخ المنافقين، والثانية لعم «راغب الصفطاوى» فاتح المندل، السحار، رابط الرجال فى ليلة فرحهم، اللعين بالجن والعالم السفلى. تلك هى الذقون التى رافقتنى فى طفولتى بقريتى الكائنة على بحر شبين، التى أطلقوا عليها اسم «كفر حجازى». حين انتقلت للمدرسة الإعدادية بالمركز، التى كان اسمها «مدرسة الأقباط»، حيث بناها القبط شفاعة لأهل المحلة والقرى التابعة لها، مسيحيين ومسلمين، والتعليم فيها بالمجان مع وجبة غذاء كانت عطية لنا نحن أبناء الفلاحين الغلابة، وكانت من الدوافع الروحية الأولى بالنسبة إلىّ للإخلاص للعلم والثقافة!! تعرفت فيها على لحيتين، لحية أبونا القسيس مرقص معلم الدين، والمشرف العام على المدرسة، ولحية أستاذ العربى «رضوان». كنا فى حصة العربى، نسمع طرقا على الباب فيفتح الأستاذ «رضوان» باب الفصل فيدخل أبونا «مرقص» فى الحال أرى أمامى لحيتين، واحدة شقراء على وجه أشقر مبتسم، والأخرى قد وخطها الشيب تحيط الوجه المبتسم أيضاً. يتوجه ناحيتنا الأستاذ «رضوان» طالبا منا: قيام فنقوم. ويقول: تعظيم سلام، فنعظم. ثم يشير بيده: جلوس، فنجلس. ثم يتناهى لنا حوارهما الذى ظل يتردد فى وعينا حتى غادرنا المدرسة. يتكلمان عن الوطن والسياسة، وأحوال الناس، والأحزاب، ونسمع أسماء مصطفى النحاس، وسعد زغلول، ثم يعرجان على الإنجليز، وطه حسين والعقاد، وأم كلثوم، وفلسطين، وجلالة الفاروق فى عز مجده. ترتفع الأصوات فى اختلافها، وينفعلان، وأسمع أبونا «مرقص» ينصح أستاذنا «رضوان» بأن يقرأ ما كتبه العقاد حتى يعرف الأمور جيداً، فينفعل أستاذنا «رضوان» ويجيبه: أن العقاد كان وفديا ومنحازا. يدق الجرس، فتخرج اللحيتان من الفصل، تحملان سبحتين من كهرمان أصغر، تضويان تحت الشمس فى ذلك النهار الذى كنا نسعد فيه بالجلال الكريم. الآن.. ما الذى أراه مجسدا أمامى؟ ما الذى يحدث؟ ما كل هذه الزحمة من لحى مختلفة الأشكال والألوان؟ كل الأمكنة تكاد تغرق فى لحى نبتت فجأة على أرض مصر. لحى طويلة. لحى قصيرة. لحى بنفسجية. لحى بشارب. وهذه من غرائب الأيام. لحى بيضاء. لحى خطها الشيب. لحى بشارب. لحى من غير شارب. لحى غاضبة وأخرى غاضبة أيضاً وأنا حيران فيما أرى، وفيما يجرى!! لحى على سراويل قصيرة تشاهدها فى المساجد وسرادقات العزاء، وعند تخوم الميدان، توزع كتبها الغامضة، وتنذر بالجحيم، وتصدر الفتوى بكفر نجيب محفوظ واتهامه بالإلحاد والدعارة، وذلك الذى يقبض على يقينه الواحد الأحد، ويرمى المحصنات بأبشع التهم الحرام، وشاشات التلفاز أينما تولى وجهك من قناة لقناة فثمة لحى مقيمة تسبح فى ألوان البهجة والشهرة. من هؤلاء؟! من جاء بهم وأين كانوا يتناسلون حتى شكلوا تلك الزحمة المفاجئة التى تزحم حياتنا؟! من غير وعى منا يترنح الوطن بين الماضى بسطوته وحضوره الطاغى، والمستقبل الغائب المجهول، والسفينة التى نركبها جميعا تمخر عباب الأيام فى موجها العالى وتنتظر، ربما الطوفان!!