أمسكت بيدها اليمنى كاميرا فوتوغرافية، وحملت باليسرى لافتة ثقيلة كُتب عليها «الكاميرا لا تزال فى أيدينا يا حسينى.. ومكملين إن شاء الله»، لكن رصاصة ثاقبة فى منطقة عين شمس حوَّلت «ميادة» من صحفية متضامنة إلى متضامَن معها، ومن فتاة حزنت على وفاة زميل، إلى فتاة محزون عليها من جموع الصحفيين، قامت الدنيا ولم تقعد بعد إذاعة خبر قتل ميادة أشرف ابنة العشرين عاماً، ولم ينتظر رجال الشرطة وأنصار الرئيس المعزول محمد مرسى حتى تجف دماؤها، إذ سارعوا إلى التبرؤ من قتلها، وبينما اشتعلت الفضائيات بحفلات الندب والرثاء والاتهامات حمل زملاء «ميادة» جثمانها إلى مثواه الأخير وقلوبهم تعتصر حزناً وألماً تنفيذاً لمبدأ «إكرام الميت دفنه». وعود المسئولين بملاحقة القاتلين جاءت سريعة، بينما كان تعهد نقيب الصحفيين السابق ضياء رشوان أسرع: «دم ميادة فى رقبتى»، ثم منحها العضوية الشرفية، وهى التى كانت تحلم باليوم الذى تنضم فيه لجداول نقابة الصحفيين تحت التمرين والمشتغلين، لكنها انضمت إلى جدول «الشهداء» الذى تسجل الأسماء فيه بالصور على واجهة النقابة بشارع عبدالخالق ثروت، بين عشية وضحاها وجدت نفسها بجوار من كانت تهتف باسمه يوماً، الحسينى أبوضيف، وجه صعيدى نحيل يجاور وجه ريفى رائق أصيل، تشابهت ظروف قتلهما والجانى لا يزال مجهولاً. لم يفِ أحد بوعده تجاه «ميادة»، فلم يحاكم أحد على قتلها، ولم يتبرع لأسرتها من أعلنوا التبرع، وتلاشت أخبارها من الصفحات التى كانت تملأها بالأخبار والتقارير الصحفية، ولم يتدخل أحد لوقف الاعتداءات على زملائها الميدانيين، الذين يرون الموت كل دقيقة أثناء تغطية المظاهرات، وتم الاعتداء على زملائها المصورين فى الاشتباكات من المتظاهرين تارة والشرطة تارة أخرى، بل سمع أحد زملائها فى ميدان عبدالمنعم رياض ما لم يتوقعه من العساكر «مش معنى إنك صحفى يبقى ده يديلك حق التصوير»، وزاده الضابط ب«بوكس» شديد سكن فى العين بقلب المدرعة التابعة ل«الداخلية». انحصرت الأضواء والأخبار عن «ميادة» فى القاهرة، لكنها بقيت كما هى فى مسقط رأسها بقرية اسطنها مركز الباجور بالمنوفية، صورة جميلة لعروس الصحافة وضعت على واجهة المنزل الذى تبكى فيه والدة «ميادة» باستمرار، فى العام الماضى كانت «ميادة» تغنى لها فى عيد الأم، واليوم الأم تقرأ لها «الفاتحة» وتحتضن صورها المنتشرة فى أرجاء الشقة، والدها المكلوم لا يشغله عدم اهتمام أحد به بعد وفاة قرة عينه، لكن يشغله القصاص لابنته، يسخر من القصاص ل«كلب الأهرام» فى أقل من أسبوعين، ويبكى لعدم تحديد هوية قاتلى ابنته فى عين شمس حتى الآن، لكن التغير الوحيد الذى حدث، هو تعلم نقيب الصحفيين الجديد يحيى قلاش الدرس جيداً بعد فوزه فى الانتخابات حيث قرر زيارة أسرة الشهيدة فى الذكرى الأولى لاستشهادها.