خلف القضبان الحديدية والجدران الخرسانية، ابتسامة لا تغيب، هى النور الكامن فى جوف الظلمة، أمومة من نوع خاص، حيث تتحطم الأسوار الحديدية وقسوتها فى سبيل ضحك الأطفال ومرحهم، هنا تتلقى السجينات معاملة مختلفة عن غيرهن، لكونهن حاضنات، هنا حيث اختلطت الجريمة بالحنان والعطف، تجلس الأم حاملة صغيرها تداعبه وتلاطفه وتجرى وراءه بابتسامة عريضة تختفى من حين إلى آخر حين تتذكر أن موعد فراقه قد اقترب، فحسب القانون تحتضن الأم صغيرها لمدة عامين فقط داخل السجن ثم يتولى رعايته أحد من أقاربه. «صباح رمضان» عاشت عامين فى نعيم بصحبة رضيعها «إسلام»، تنظر إليه بحزن عميق، إذ يتبقى من مدة بقائه معها نحو شهر واحد فقط، تتحسسه من وقت إلى آخر وتحمله على كتفها بحب، لا تريد أن تفارقه طوال تلك الفترة القصيرة المرتقبة، دخلت «صباح» السجن فى قضية لم تكن تدرك خطورتها، كانت فى زيارة إلى أخيها المحبوس على ذمة قضية تعاطى مخدرات، طلب منها أن تمده بأنواع معينة من البرشام، لأنه فى حاجة إليه، «صباح» التى لم تكن تعرف شيئاً عن خطورة ما طلبه أخوها لجأت إلى زوجها تسأله، ليخبرها ببساطة الموضوع، وقبل أن تبدأ الزيارة تم إلقاء القبض عليها، فى قضية تُعرف باسم «مخدرات من الداخل»، يصدر الحكم فى القضية بالحبس ثلاث سنوات، كانت «صباح» فى شهور الحمل الأخيرة، لتلد صغيرها داخل السجن، رحلة من الألم عاشتها «صباح» وحدها إذ انفطر قلبها على ولدها البكرى الذى لم يُكمل عامه الخامس بعد، إذ تركته مع أبيه خارج أسوار السجن، وطوال مدة حبسها لم يزرها يوماً إذ كانت تأتيها الزيارات من حماتها وأخت زوجها التى جاءت إليها لتخبرها بأن زوجها يبحث عن زوجة أخرى، تجلس الفتاة التى لم يتجاوز عمرها ال21 عاماً، تتدبّر حالها الذى وصلت إليه وتقول: «مش هرجع لجوزى ده أبداً لأن هو السبب فى اللى حصل لى.. فهمنى أن دى حاجة عادية وهو عارف إنى ممكن أتحبس فيها»، تقول «صباح»: «نفسى فى صورة لابنى قبل ما يسيبنى ويخرج.. قلبى بيتقطع لأنى هسيبه وحزينة عشان ابنى الكبير اللى ماعرفش حاجة عنه». «صباح» لم تكن الوحيدة التى دخلت السجن فى قضية مخدرات من الداخل، إذ شاركتها فى الأمر ذاته «سحر عبدالعليم» التى تنتظر الإفراج فى الأشهر المقبلة، لكن صغيرها سيخرج قبلها إلى أهل والده، تقول: «جوزى اتقبض عليه فى قضية تجارة مخدرات ولما زُرته طلب منى أجيب له برشام وأدخلهوله السجن، وسمعت كلامه، اتقبض عليا واتحكم عليا ب3 سنين»، ورغم أن زوجها كان قد قُبض عليه فى قضية اتجار، لكن الحكم صدر لصالحه وخرج من السجن بريئاً لتظل هى خلف القضبان، ويبدأ هو حياته باحثاً عن زوجة أخرى، يأتيها الخبر كالصاعقة فى محبسها على يد أخت زوجها إذ جاءتها فى إحدى الزيارات ومعها ضرتها، وحينما علمت ذلك تركت الزيارة ودخلت العنبر فى حالة انهيار تام لما سمعته، «سحر» التى أنجبت ولدها فى السجن يتبقى له شهران حتى تنتقل مسئوليته إلى أبيه. أما «وفاء صلاح» فكانت قصتها مختلفة إذ دخلت السجن متورطة فى قتل زوجها، وحُكم عليها بتهمة التحريض على موته، قالت «وفاء» التى حاولت إنكار كل التهم رغم صدور الحكم: «جوزى اللى موته ناس صحابه اتخانقوا معاه وقتلوه على فلوس»، لكن القضية حسب ما تضمنته أوراقها تؤكد أنها تآمرت على قتل زوجها وشاركت فى التدبير لقتله. تجلس «وفاء» وحيدة فى محبسها بعدما أصيب طفلها بنزلة شعبية انتقل على أثرها إلى مستشفى أبوالريش، تطمئن عليه من حين إلى آخر عبر المسئولين فى المستشفى الذين يخبرونها بتحسّن حالته وأنه سيخرج خلال أيام من المستشفى. وللأطفال رعاية خاصة داخل السجن، فلهم حديقة كبيرة تتوسّط سجن القناطر، وبها ألعاب مختلفة تخرج إليها الأمهات فى الصباح الباكر بعدما تحصل على طعام صغارها المخصّص من السجن ما بين ألبان صناعية وأخرى «سيريلاك» وزبادى وغيرها من الأطعمة المخصّصة لهم، تجلس «إيمان منصور» البالغة من العمر 41 عاماً تحمل صغيرها الذى لم يتم شهره الثالث بعد، وتقف به فى الحديقة، باحثة عن ضوء الشمس الذى يساعده فى النمو قبل أن يأتى موعد عودتهم إلى العنابر، تقول: «ابنى لما اتولد كان شبه ميت، اتولد عنده مشاكل فى الرئة، والمأمور فتح لنا السجن نص الليل عشان يوديه حضّانة»، طفلها الذى تداوم على متابعته عند طبيب السجن صار أفضل من أول أيام ولادته إذ بات أفضل فى حجمه وأفضل فى إدراكه حسبما قالت، تقول «إيمان»: «دخلت السجن فى قضية اتجار فى المخدرات»، إذ كانت تبيع الخبز فى المطرية وتم إلقاء القبض عليها ببيع المخدرات، وهى فى الشهر السادس من الحمل، وحُكم عليها بالسجن عشر سنوات. تتساءل «إيمان» عن الأحكام التى تصدر ضد تجارة المخدرات، قائلة: «لماذا لا يخرج سجناء المخدرات فى نصف المدة مثل باقى المساجين». وتقول: «أنا كنت بابيع مخدرات مش هكدب، بس تبت ومش هعمل كده تانى». فيما وقفت «هدى سعد» وحيدة تتأمل حالها بعدما خرج صغيرها لإجراء فحوصات طبية فى مستشفى أبوالريش تنتظر عودته بقلق شديد، تقول «هدى»: «ابنى هيطلع فى شهر 5 المقبل وأنا محكوم عليا فى قضية سرقة»، الاتهام جاءها من جيرانها، حسبما قالت، لكن حياتها داخل السجن تحمل طعماً مختلفاً، بمجرد ما تصحو فى الصباح الباكر تحمل صغيرها وتذهب لإحضار طعامه، ثم تحمله إلى الحديقة يلهو ويلعب معها. تقول: «ابنى هو الفرحة الحقيقية اللى باحسها جوه السجن وكنت أتمنى يقعد معايا أكتر من سنتين»، وللصغار استثناءات كثيرة داخل السجن، فلكل طفل ألعابه الخاصة وملابسه التى يصرفها السجن وبطانية وغيرها من المستلزمات التى يحتاجها أى صغير، تحكى كل الأمهات عن تلك الامتيازات ويتحدثن عن أنهن رغم ذلك فإن مرارة السجن لا يهونها عليهن إلا حضن دافئ من أطفالهن حتى لو كان من خلف القضبان.