في كل الكتابات يجوز الاقتباس.. وفي كل المشاعر يجوز المجاملة.. وتجوز الاستعارة.. ويجوز استخدام المحسنات البديعية.. ويجوز كل جائز وممنوع.. ولكن في تلك العلاقة الخاصة وهذا الرباط بين قلبينا بلحام حديدي، فعفوا لكل مظاهر البلاغة، أعتذر لكل المحسنات والمقبلات وروائع المفردات في كل اللغات. أجد كل ألفاظ العربية قد أصابها الخرس، وفشلت في التعبير والنطق بهذا الشوق القاطن في جنبات فؤادي.. وهل هناك مثلي له أم كأمي.. كل منا أمه في عينيه منبع ومنهل ومصدر للأمان والراحة والحب والطمأنينة.. لكن هذه أمي.. تلك السيدة التي لا يمكن أن يجود الزمان بمثلها.. هي نسخة واحدة وليس منها اي إصدارات أخرى. عشت في القاهرة مغتربا ما يقرب من 8 سنوات، ربما لم تمر عليّ ليلة دون أن أفضفض لها، وعندما أشعر أني أرهقتها بتفاهات ذلك الطفل الذي لن يكبر في عينيها ابدا( اللي هو أنا) أنهي المكالمة قائلا " كنت عاوز أقول لك موضوع مهم.. نكمل بكرة" وأغلق الهاتف مسرعا، فلا تنام إلا بعد الإلحاح في الرن لأرد بعد الرنة الحادية عشرة.. كنت بهزر والله يا ( اناديها باسمها مفيش بينا أي تكليف ) .. لم تمل يوما من رخامتي، ولم تبد أي ضجر من غلاستي، ليس فقط لأنها أمي.. بل إنها البئر الذي يخبئ كل أسراري وأفكاري.. بل إنها أجلّ وأعظم نعمة أكرمني الله بها. تظل ذاكرتي عامرة بكل اللحظات الصعبة وكل جبال الهموم التي كانت تنصهر كالجليد الذي وجد نفسه فجأة في صحراء مكة عندما أرمي نفسي بين ذراعيها. في هذه الغربة القاسية أجدك يا أمي عندما أغمض عيني تبتهلين إلى ربي أن يوفقني، في هذه الغربة يا أمي يقتلني الندم أني ضيعت من عمري أياما لم أتقرب إلى الله بتقبيل يديك وقدميك. علمتني الغربة معنى أن يأتي الليل ولا أستطيع أن أفضفض لك كما تعودت في طفولتي.. كما كنت أجلس إليك حتى مطلع الفجر أستمع إلى الحكاوي والحواديت، وكنت دائماً حريصة كل الحرص ألا نقترب من أعراض الناس. رب أسألك ألا تريني فيها مكروها أبدا، وأن تشفيها وترزقني رضاها عني، وأن تحفظ جميع الأمهات، وكل من فقد أمه ان تلهمه صبرا على فراقها وتجعل مثواهن الفردوس الأعلى.