يتجدد الجدل دوماً فى الإعلام المصرى عن معنى «الحياد»، وما إذا كان «خرافة» أو «قيمة تستحق أن نعمل من أجلها». ويتسع هذا الجدل ليتخذ شكلاً صدامياً أحياناً، إلى حد يعتبر البعض فيه أن «الحياد خيانة»، فيما يرى آخرون أن التخلى عن هذه القيمة المهنية يمكن أن يحوّل الأخبار إلى مجموعة من التشنجات والتصورات الذهنية المتصادمة والمتحاربة. إن الحقائق لا تتطلب انحيازاً، بل إن الانحياز لها قد يفقدها مصداقيتها، فضلاً عن فقدان مَن يدافع عنها صفة الحياد، التى هى أهم أسلحة الدفاع عن أى قضية. فالحياد فى العمل الإعلامى الإخبارى هو وقوف الصحفى أو الوسيلة الإعلامية على مسافة متساوية من جميع أطراف الحدث، مع إتاحة الفرص المناسبة لتلك الأطراف، أو مَن يمثلها، للتعبير عن مواقفها، دون التورط بتأييد أو معارضة أى من تلك المواقف. والحياد يعد خطاً فاصلاً بين تقديم المعلومة المجردة وبين التحريض والحض على توجه سياسى أو اجتماعى معين. وعند إعداد التقارير الصحفية أو تقديم النشرات وبرامج الأحداث الجارية، يجب أن يتم التأكد من أن الصحفى يحاول أن يفصل بين مشاعره وعواطفه وتوجهاته وبين مهنيته. من حق الصحفى أن يشعر بكثير من التعاطف مع ضحية فى جريمة ما، وأن يشعر أيضاً بكثير من التحامل على قاتل مفترض أو مشتبه فيه، لكن الحياد والمهنية يقتضيان ألا يظهر هذا التعاطف عند تقديم التقرير الصحفى. وكلما كان الصحفى محايداً ومهنياً كانت هناك فرصة لإنجاز تقرير صحفى مهنى جيد، وأيضاً لظهور الحقيقة واستخلاص العبر. يبرر الكثير من الصحفيين انحيازهم بأنهم «وطنيون» يدافعون عن الوطن، أو أنهم «مؤمنون» أصح ديناً من الآخرين، أو أنهم «يدافعون عن الحقيقة»، أو «ينحازون للمواطنين أو المهمشين أو الضعفاء أو المظلومين». مرة أخرى يجب التذكير بأن «المواقف العادلة لا تتطلب انحيازاً، ولكن تتطلب مهنية لإبرازها وتوضيحها». علينا أن ندرك أنه لا يصح التذرع بقيم «قابلة للتشارك» (مثل الوطنية أو الإيمان أو الحقيقة) عند ممارسة الانحياز فى التغطية الخبرية. يمكن للصحفى الذى يقوم بتغطية الأخبار أن يعبر عن انحيازه فى مجال الرأى (المقال، والعمود الصحفى، والكاريكاتير، والتحدث إلى الجمهور عبر وسائل الإعلام)، باعتبار أن ما يقوله رأى وليس أخباراً أو حقائق.. لكن الأخبار لا تنطوى على تقديم آراء شخصية. يمكن لأى صحفى أو إعلامى أن يعلن عبر وسيلة الإعلام التى يعمل بها أنه «منحاز لتصور ما، أو شخص ما، وأنه يقدم أخباراً بشكل يخدم هذا الانحياز»، وعندها يمكن تفهم ما يفعله، واحترامه. ففضائية لأحد الأندية، أو صحيفة لأحد الأحزاب، ستكون منحازة بالضرورة. وعندها سيتزود الجمهور بالأخبار منها باعتبارها «أخباراً مخلوطة بهذا الانحياز وخاضعة له»، وسيكون «التعدد» وسيلة لتقويم هذا الانحياز. لكن هؤلاء الذين يعملون فى «الإعلام العام»، أو «يدعون الحياد والمهنية» فى «بيانات المهمة»، أو الأدلة التحريرية، أو الإعلانات الترويجية، مطالبون بالتفرقة بين الرأى والخبر، واتخاذ مواقف محايدة عند تغطية الأخبار. الحياد ليس خرافة؛ لأنه موجود فى كثير من الممارسات الإعلامية، وليس هدفاً يمكن تحقيقه بالكامل، لأنه إحدى القيم الأساسية ضمن «قيم العمل الإعلامى الرشيد»، ووظيفة القيمة أن تؤطر الأداء، وترشد الممارسة، وتعطينا معياراً للقياس والمحاسبة، وليس أن تتجسد كاملة فى الواقع. السؤال لا يجب أن يكون: «هل هناك حياد بنسبة مائة فى المائة؟»، ولكن السؤال يجب أن يكون: «هل الحياد قيمة تستحق أن نعمل من أجلها؟»، و«هل هناك وسائل يمكن من خلالها أن نقترب من تحقيق الحياد؟». الحياد فى العمل الإعلامى مطلوب من كل مَن يعمل فى الإعلام العام، ومطلوب أيضاً من كل مَن يدعيه لنفسه، ومطلوب أيضاً من كل مَن يقدم الأخبار ويقول إنه مهنى وموضوعى؛ لأن الموضوعية لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال الحياد.