الصندوق بالنسبة للمصريين، خاصة النخبة السياسية والثقافية، سجن كبير لا يبرحونه رغم شكواهم المستمرة من وجوده. فى هذه اللحظات التى يبدو فيها الجديد قديماً يصبح التفكير خارج الصندوق مخرجاً من رتابة الجمود السياسى. حضرت منذ أيام محاضرة لأستاذ غربى مرموق فى مجال التحول الديمقراطى «فيليب شميتر»، وقد سبق أن قرأت له مقالات عديدة، وجاءت مناسبة الالتقاء به فى حلقة نقاشية مصغرة دعا إليها سمير مرقس مساعد رئيس الجمهورية بالتعاون مع مركز الدراسات التاريخية والاجتماعية بالأهرام. المحاضرة تعبر عن التفكير خارج الصندوق. الأفكار التى طرحها المحاضر استندت إلى دراسات معمقة قام بها فى مجال التحول الديمقراطى على مدار سنوات شملت دول أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وأفريقيا. من هذه الأفكار أن الناس قد تضج من التداعيات السلبية التى تصاحب مراحل التحول الديمقراطى، وقد نجد من بينهم من يتذكر بحنين الأنظمة الاستبدادية السابقة، لكن ستظل الديمقراطية هى السبيل الوحيد بالنسبة لهم، وأى نكوص عن الديمقراطية هو مؤقت، لن يستمر طويلاً. واستعار فى حديثه مقولة الكاتب البريطانى الشهير «تيموثى جارتون آش» أن الربيع العربى مرحلة وسط بين الثورة (التغيير الراديكالى) وإلإصلاح (التغيير المتدرج). الأولى تعبير عن النموذج الفرنسى بينما الثانى تعبير عن النموذج البريطانى. من الأفكار المهمة التى طرحها أن معيار الحكم على الأمور هو «المواطنة السياسية» بمعنى أن يتمتع كل المواطنين بحقوق وواجبات متساوية، ويمارسون حقهم فى الاختيار السياسى الحر. أما مسألة المواطنة الاجتماعية والاقتصادية بمعنى تحقيق العدالة الاجتماعية، والمساواة الاقتصادية، وخلافه، فهى قضايا ممتدة، فلا تزال الديمقراطيات العتيقة إلى اليوم تعانى من تفاوتات اجتماعية حادة. من الأفكار كذلك التى أشار إليها «شميتر» أن الديمقراطية هى مشاركة المواطنين فى الحياة السياسية، لكنها لا تحدد من هو المواطن؟ هذه أفكار تجدد الذهن فى النظر إلى العبث الذى يحدث فى الصندوق المغلق الذى يقاتل المصريون داخله، وكثير من هذه الأفكار ينطبق على الواقع المصرى. هناك من يراهن على فشل الديمقراطية ويبشر بعودة الجيش مرة أخرى، ولكن هذه المرة بتأييد شعبى. المسألة ليست إسلاميين أو غيرهم، ولكن الأهم هو التجربة الديمقراطية. فشل الإسلاميين معناه -فى رأيى- أن تأتى نخبة سياسية مدنية جديدة تتولى إدارة الأمور، ولكن لا يعنى بأى حال من الأحوال استقدام الجيش مرة أخرى إلى المشهد السياسى. أستغرب من المقالات التى تدبج هذه الأيام مبشرة بعودة المؤسسة العسكرية مرة أخرى. وهناك على الجانب الآخر فريق من الإسلاميين يعتقد أن الديمقراطية فرصة لتحديد ماهية المواطن. يحرم الأقباط والمرأة من الحقوق بدعوى أنهم ليسوا مواطنين مكتملى المواطنة بالمعنى السياسى، وهو يمارس على الأقباط «قوامة سياسية» ويمارس على المرأة «قوامة ذكورية». نحن لا نخترع العجلة. فى أحيان كثيرة نرى أنفسنا أكثر وضوحاً فى مرآة الآخرين.