«إذا وقعنا فسنقف من جديد، فنحن لم نمُت بعد. نعم، أعلم تماماً أن أصعب ما سنواجهه فى الحياة هو لحظات فيها يمكن أن نفكّر فى الاستسلام يا سيدى، فالاستسلام أيضاً هزيمة، فلِمَ لا نواجه حتى النهاية إذن؟ ألا تستحق أنت شرف الموت النبيل؟». كتبتُ له هذه الكلمات اليومَ بعد أن تركتُه، ولكننى تردّدت فى أن أرسلها إليه، ترددت فعلاً، كيف لا وهو هذا الشخص النبيل الذى لم يقدّر شيئاً فى الحياة قَدْر كلمة الشرف، شرف الكلمة، شرف العمل، شرف المشاعر، شرف الوطن..؟ وأنا حقّاً لم أتمالك نفسى وأنا أشاهد فى عينيه ظلّ الاستسلام. نعم يا عزيزى، فأنا أعلم أنه ما كان ليمنع هذا النبيل بداخلك إلا مواجهة مع ضميرك النقى.. فحروبنا تتوقف غالباً عندما تصطدم بالضمير، ونحن فى أحيان كثيرة نفاضل بين كفّتَين، وفقاً للمكسب والخسارة، إحداهما لنا والأخرى لمن يقف بيننا وبين الوصول إلى أهدافنا ورغباتنا، وحقوقنا أيضاً. ورغم يقينك بأن الحق معك، فإن ضميرك لا يطاوعك إذا ما مسّ الآخَرَ -أياً كان قدره- حزنٌ فى مقابل مكسبك. أنا لا أتحدّث هنا عن أشياء مثالية، بل عن أشياء ومواقف موجودة فى حياتنا دوماً، فهل مرّت بك؟ تعالَ يا صديقى الطيب معى، وألقِ نظرة على هؤلاء الذين عرفتهم وعشت معهم تلك المواقف واقعاً، وأخبرنى برأيك أنت، نعم أنت، يهمّنى جدّاً أن أعرفه: - الأول، أتذكره جيداً، وهو يصارع كل علامات الانزعاج والتوتر فى صوته، واقفاً خلف مكتبه مُمسِكاً سمّاعة الهاتف الداخلى محدّثاً الوزير المختصّ: لست أنا الذى سأكسر قلبه فى آخر أيام خدمته وآخذ منصبه يا سيدى، حتى إذا كنت استحقه. أغلق الهاتف بهدوء، ولم أعلّق أنا.. فما رأيك؟ - أما الثانية فقد قالت لى وهى لا تقوى على التنفّس من شدة البكاء: نصفى مقيّد بحبه حتى الموت، ونصفى الآخَر مقيّد بعائلته، وإن لم يكُن يوماً على وفاق مع زوجته، فلست أنا من يقوى على جرح إنسان أيّاً كان! وتَخَلّت عن حبها ورحلت، ولم أعلق أيضاً، فما رأيك أنت؟ - الثالث لم يعرف يوماً لماذا تَخَلّت عن صداقته ولم تعُد تردّ على هاتفه، هو الذى كان يكنّ لها كل احترام وتقدير، وذلك لمجرّد أن زوجته السابقة أشاعت عنها أنها من تَسبّب فى فشل زواجهما، وأنها تخطّط للزواج به، قالت لى: لست أنا من يحتمل ألم امرأة تنتظر الجرح منّى فى كل ثانية ترانى فيها قريبة من زوجها السابق. وأنا لم أعلق عليها رغم يقينى أنها لم تكُن تراه أو تعامله أو ترى منه إلا صديقاً يحتاج إلى عقل صديق، فما رأيك أنت؟ - الرابعة والأخيرة، هى تلك الأربعينية الحنون التى تَحَمّلَت وما زالت تتحمّل الحياة مع زوج لم تعرف معه لغة السعادة يوماً، فكلاهما يختلف تماماً عن الآخَر؛ هو عملى جدّاً لا يعرف معنى للمشاعر أو الكلمة الدافئة، لم يعرف فى حياته سوى الحديث عن المكسب والخسارة، وهى لم تعرف الحساب يوماً ولا تعرف حقّاً سوى العطاء، لغة الله التى أنزلها للمودة والرحمة، قالت وهى تبتسم فى ألم: حتى لا يكبر أبنائى بعيداً عن أبيهم يا سيدتى. ولم أعلق قط.. فما رأيك أنت؟ يا صديقى الطيب.. أنا حقّاً لم أعلق على انسحاب كل واحد من هؤلاء، ربما لأنى لم أكن أعرف ماذا كان ينبغى لى أن أقول، ولكنى كنت أعرف دائماً أننى ممنّ لا يحبون الاستسلام، وممن لا يرحبون بالألم الصامت، إلا إذا كان بفعل شىء من القدر، مثل المرض -حمانا وحماكم الله منه- ومثل موت العزيز -رحمنا الله من ألمه- أو حتى فشل عمل بذلنا فيه أقصى ما نستطيع من جهد ووقفت الظروف القدرية حائلاً بيننا وبين النجاح فيه. كنت أعرف أيضاً أنك يجب أن تستفتى قلبك يا صديقى، فقلبك هو أول ما خلق الله فيك، فدَعْ نوره يهدِكَ كلما أحاطت بك الظلمة وكلما حاصرك ضميرك النبيل الْمُتعَب. وأرجو منك أن تتذكر يا صديقى أن الجرح نسبى، وعليك أن تسأل نفسك كلما فكرت من أجلهم: هل ستبرأ أنت أيضاً من جرحك؟ إلى أى مدى؟ هل ستأتيك هذه الفرصة مرة أخرى؟ ولا تنسَ أبداً ألا تنتظر المقابل، فمن النادر جدّاً أن يقدّر أحد قيمة تضحياتك هذه، هذا إن رآها أصلاً تضحيةً، أو تَذكّرَها يوماً. أعلم أن التضحية قيمة رائعة يا صديقى، تدفعنا كثيراً إلى الاستسلام أو الانسحاب من المواجهة، فأرجوك لا تضعها إلا فى مكانها الصحيح. ضَحِ من أجل ما يستحقّ، ومَن يستحقّ.. وعليك أن تتحرر من نصفك المقيّد وأن تستدعى عقلك، فهو صوت الله فى الحقّ، وهو النجم العالى الذى يضىء لنا قلوبنا، والذى -أبداً- ما هوى.