جلست على أحد مقاهي وسط البلد تحتسى القهوة السادة، كانت قد عادت لتوها من دار الكتب بعد أن قرأت إعلانا في "الأهرام" عن دورة تدريبية تقدمها الدار في مجال البحث والتوثيق ، ذهبت لتسجل اسمها فيها لكنها فوجئت بالموظفة هناك تسألها بابتسامة بلاستيكية بصوت رفيع ناعم: "دفعة كام؟" أجابتها: 2006 ردت- بنفس الابتسامة- : "للأسف مش هينفع" "هو إيه اللي مش هينفع؟" سألتها باستغراب أجابتها: "لكي تحصلين على الدورة التدريبية يجب أن تكوني حديثة التخرج سنة على الأكثر" تجهم وجهها ولم ترد ، غادرت المكان صامتة يااه 2006 متى مر كل هذا الوقت؟، حتى هذه اللحظة لم تكن تتصور أن 2006 بعيدة إلى هذا الحد، صحيح أنها مازالت صغيرة ومادامت في العشرينات سيحسبون سنين عمرها بالربيع ستة وعشرون ربيعا تحديدا لكن لماذا إذا تشعر وكأنها في الستين مع أنه باقي لها أربعا وثلاثون عاما لتتم الستين.. أخذت تلعن الأيام في سرها، فهي تأخذ منها امتيازاتها واحدا تلو الأخر، اليوم لن تحصل على الدورة التدريبية وغدا لن تقبلها أية وظيفة لأنها لم تعد شابة بما فيه الكفاية، وبعد غد سيكف العرسان عن دق الباب لأنها تجاوزت السن ,وإن تزوجت فربما لن تصبح أم وسيخبرها الدكتور بابتسامة بلاستيكية - تماما كابتسامة الموظفة - سنك كبر يا مدام الحمل خطر وفرصك ضعيفة. وتوالت اللاءات على ذهنها كالصفعات، "لا تلبسين اللون الفلاني مش لايق لسنك, في واحدة في سنك تأكل ايس كريم اومصاصة, لسة بتقري روايات رومانسية". مر رجل من أمامها أثناء انشغالها بهذه الخواطر السوداء في خفة وجلس على إحدى الطاولات بجانب شاب يجلس في الجهة المقابلة لها، دققت النظر أكثر وللمرة الأولى انتبهت أن نفس الرجل يجلس في ذات الوقت بجانب كل رواد المقهى بنفس الملامح اللامبالية التي لا تخلو من قسوة.. وعلى غير عادتها لم تكترث له بينما عادت لخواطرها مرة أخرى حتى وجدت ظلا يسقط على فنجان القهوة، نظرت أمامها ورأته جالسا في مواجهتها تسمرت وخرست تماما أمام عينيه التي كانتا أشبه بهوتين عميقتين، شعرت وكأنهما تسحبانها إليهما لم تستطع التفوه بكلمة وتسأله: "من أنت ؟ ولا لماذا تجلس أمامي هكذا بدون استئذان؟"، كل ما فعلته هو أن قامت من جلستها مسرعة، لم تنظر ورائها.. وضعت سماعات هاتفها المحمول في أذنها وفتحت مشغل الموسيقى وضغطت على أول أغنية قابلتها وبدء صوت عمرو دياب في أذنها يغنى: " الزمن بينسى دايما مع الزمن مفيش وعود" تجمدت لجزء من الثانية وكادت تصرخ: "هو أنا ناقصة"، ومع ذلك استمرت في سيرها الحثيث بينما عمرو يواصل الهمس في أذنها "الزمن ملهش صاحب ملهش قلب ولا مشاعر خطوته مشوار في قلبي عشت فيه دايما مهاجر".. "آه فعلا مهاجر" هكذا همست في شرود، دخلت الشارع الذي تقطن فيه كأنها منومة،أخذت تسير في خطوات اقرب للعدو وكأنها تهرب من الأغنية ومن الزمن ومن نفسها "عشرين سنة من يوم ما أتولدت احلم معاه يوعدني اصدق".. تتجاهل المصعد وتقفز على السلم قفزا لشقتها في الدور الخامس "عشرين سنة مروا كأنهم سراب وكان بيكدب" أنفاسها تتقطع ومع ذلك ما زالت تقفز" كتب حكايته على الوجوه والمني في كل ضحكة" تقف لتلتقط أنفاسها ثم تعاود القفز "وساب علاماته الحزينة على طريقي من زمان".. وأخيرا وقفت أمام باب شقتها مع انتهاء الأغنية، أولجت المفتاح في الباب وارتمت على أول كرسي صادفها لحسن الحظ لم يكن أحدا في المنزل قررت أن تأخذ حمام وان تتغلب على هذه المشاعر السلبية وحاولت أن تنسى ومياه الدش تنهمر فوق جسدها.. خرجت من الحمام ووقفت لتمشط شعرها أمام المرآة لاحظت بضع شعيرات بيضاء في رأسها كادت تجن وصرخت: "كيف ذلك؟ شعري بالأمس فقط اسود تماما"، ثم قالت في نفسها: "هل كان ذلك بالأمس فعلا ؟" اغتمت ونظرت لهذه الشعيرات مرة أخرى، وغمغمت بأسى: "بعض الصبغة ستصلح ما أفسده..... "ولم تكمل عبارتها إذ فوجئت به يظهر في المرآة جالسا على سريرها!، كان هو نفس الشخص، قفزت من مكانها في ذعر وحاولت أن تستر نفسها لكنه انتبهت إلى أنه لم يعرها التفاتا كان ينظر نفس النظرة اللامبالية وكأنه ينتظر، ولكن ينتظر ماذا ولم تستطع هذه المرة أيضا أن تسأله، وشيئا فشيئا خفت خوفها وتعاملت معه وكأنه أمر واقع لابد منه فنظرت إليه في لامبالاة مماثلة وأكملت تمشيط شعرها .. الغريب أن وجوده معها صار عادة، تجده في الحمام والمطبخ، أو بجانبها على السرير، وهى تلتقط انفاسها في الشرفة، أو في العمل ، على المائدة أثناء تناولها الطعام مع أسرتها، وفى كل مكان والأغرب أنها تراه في صورها الخاصة وحدها أو مع العائلة دائما يقف بعيدا يحدق في الكاميرا وكأنه ينظر إليها مباشرة ومع ذلك هو لا ينظر إليها.. وترى أيضا نسخة منه ملازمة لكل شخص ولكنهم لا يرونه مثلها، أم أنهم اعتادوه..، حيرها الأمر، ورأته أيضا في سبوع ابن إحدى قريباتها وجدته بجانب المولود ينظر إليه دائما هو بنفس الملامح لا يشيخ ولا يصغر صعب أن تحدد عمره ، قد تظن ملامحه لطفل أو شاب أو شيخ لكنه على اى حال موجود، و لم تجرؤ يوما على أن تسأله من هو؟ ولم تعد تهتم به ولا تلتفت لوجوده الذي اعتادته حتى نسيته وان كانت أحيانا ترمز إليه في يومياتها باسم الزائر.. لكن مع الوقت لاحظت شيئا غريبا أنه وبرغم عدم اكتراثه بوجودها كانت تشعر بأنه يراها حقا عندما تنظر للساعة، وقتها فقط تجده ينظر إليها ويبتسم حتى اعتقدت انه لا يدرى أنها تشعر بوجوده إلا عندما تنظر للساعة.. كانت ترى السعادة مرتسمة على وجهه عندما تشترى ساعة جديدة يكاد يمد يده إليها ليساعدنها في تعليقها على حائط غرفة الصالون أو الصالة، وفى لحظات أخرى كان يتعمد أن يعبر من خلالها بمنتهى السلاسة بدون أنا تشعر به وهو يتخللها.. لكن في كل مرة يعبرها فيها كان يسلبها شيئا.. مرة سرق ضحكاتها ولم تعد تذكر ضحكة حقيقية لها كانت من القلب، وأخرى سرق دموعها، بل وسلبها حتى سعادتها، ومن كرمه كان يترك مكان ما سلبه أشياء مثلا شعرة بيضاء أو تجعيدة محفورة على وجهها كالقدر أو حزنا مبهما لا تعرف متى بدا وأين ينتهي.. ذهبت للمقهى إياه مرة أخرى، وهى تحب الجلوس عليه بعيدا عن الضجيج فكل شخص في حاله مع كوب قهوة أو مع لاب توب أو حتى مع حبيبه، جلس بجانبها هذه المرة أيضا بصمته المستفز، تجاهلت وجوده, ثم رفعت عينها قليلا عن الورق أمامها لتتأمله، وأخذت تفكر قليلا، وخطر على بالها أمرا فغادرت المقهى وعادت للبيت، أوقفت كل الساعات في المنزل حتى ساعة الموبايل وساعة يدها، وجلست هادئة في انتظاره لا هي لم تنتظره لأنه موجود ولكنها فقط أعدت العدة لأول حوار بينها وبينه، أغلقت باب غرفتها وصارا وحيدين هي وهو.. "هل تظنين انك بذلك تعطليني عن مهمتي؟! أنا نفسي لا حيلة لي ولا استطيع التوقف عن أداءها" بادرها بشبه ابتسامة "لماذا دخلت حياتي؟ ومتى ستتركني وشأني" أجابها بصوته الهادئ الرتيب كدقات الساعة: "أنا موجود قبل أن تولدي وباقي بعد أن تموتي لن يمنعني شئ عنك أنا في كل مكان" "ولماذا أنا وحدي أراك؟" " ربما لأنك تريدين أن تريني" وباغتها بالسؤال: "متى أخر مرة نظرت فيها للسماء؟ "، وقعت على السرير كعروس ماريونيت تمزقت خيوطها.. "أتدرين كل هؤلاء الناس حولك يعلمون بوجودي ولكنهم لا يكترثون يعيشون حياتهم أما أنت وتفنى عمرك تتمسحين في قبلتي، لا تحيين في الوقت بل الوقت يحيا فيك وتسيرين محنية الظهر مثقلة وكأنك تحملين عمرك فوق كتفيك".. ورق صوته: "عيشينى كقصة أو فيلم واعتبري أن لحظة الذروة لم تأت بعد " "وماذا افعل أنا؟" "الحل داخلك انت" اقترب منها وهمس: "تجاهليني فحسب وساختفي من حياتك" نظرت إليه في ارتياب.. أخذها من يدها مثل طفل مشاكس، وذهب بها إلى المرآة وقال: "انظري لهذه التجاعيد إنها ليست تجاعيد حقيقية بل هي تفاصيل وجهك العابس دوما، ابتسمي قليلا " استجابت لطلبه على مضض، وابتسمت ابتسامة صغيرة أضاءت وجهها لم تلبث أن اتسعت، وتساءلت هي: "منذ متى لم أرى ابتسامتي؟ " ظلت صامتة لفترة طويلة تتفرس في وجهها الذي لم تكن تبحث فيه إلا عن آثار الزمن حتى نسيت ملامحه، فكرت في كلامه، ثم التفتت إليه.. لكنه كان اختفى ..، فوجئت بعودة عقارب الساعات كلها للدوران، وبتلاشيه من كل صورها، وعندما نزلت مسرعة إلى الشارع لم تره أبدا لا بجانبها ولا بجانب أي شخص آخر. كانت تسير وهى تنظر للسماء وانتبهت إلى إنها حافية القدمين، ضحكت كمراهقة بانتعاش وبلا قيود، ثم عادت للبيت وارتدت حذاءا خفيفا ونزلت للشارع مجددا بعد أن نست كل شئ عن الزمن.