أغسطس 2008.. كان موعدًا مع السعادة، حينذاك كانت أولى خطواتي في بلاط صاحبة الجلالة، عندما تم توزيع طلاب قسم الصحافة بكلية الإعلام على عدد من الجرائد للتدريب قبل عام واحد على التخرج، وجاء اسمي في القائمة التي حالفها الحظ بدخول مؤسسة الأهرام العريقة. خطواتي كانت أكثر حماسًا كلما اقتربت من المبنى الذي وطأه العديد من القامات في عالم الصحافة العربية بل والعالمية، وبعد لقاء مع أحد رؤساء الأقسام بجريدة الأهرام المسائي، تم تكليفي بأول موضوع صحفي في فترة التدريب، وكان الأخير بالصحيفة. التزامي بموعد التسليم ودقة الموضوع أثارا إعجاب الصحفي الذي اشتعل رأسه شيبًا، في الوقت الذي صدمني فيه بضرورة كتابة المادة الصحفية على ورق "دشت"، وهو ورق استخدمه الصحفيون في الكتابة من قديم الأزل، بل ورفض استلامها على ورق مطبوع بشكل لا يقبل النقاش، وهو ما نفذته ولسان حالي يقول: "أمال لو بعتهولك على الميل كنت هتقولي إيه.. ده إذا كان عندك ميل!". "الدشت" ليس مجرد وسيلة تستخدمها بعض العقول الرافضة التعامل مع طرق تكنولوجية أسرع وأسهل، ولكنها سياسة دولة يرفض رجالها إعطاء الفرصة للشباب لتحقيق حلمهم والاستفادة من حماسهم، في الوقت الذي يتشدقون فيه بدورهم المهم في التمهيد وإنجاح ثورة 25 يناير، ورغبتهم في إشراكهم بقوة في قيادة أمور الدولة، عبر خطب رصينة مؤثرة لا تتعدى مرحلة الكلام. رجال "الدشت" أبوا أن تحقق الزميلة الصحفية الشهيدة ميادة أشرف حلمها، إلا بعد أن دفعت روحها ثمنًا له، عندما منّ عليها نقيب الصحفيين ضياء رشوان بالعضوية الشرفية لنقابة الصحفيين، لتنعم بما كانت تتمناه، بعد أن لقت مصرعها، إثر إصابتها بطلق ناري في الرأس أثناء اشتباكات بين عناصر الأمن وأنصار الإخوان بمزلقان عين شمس. "يارب طبطب عليا".. كانت آخر عبارة كتبتها "شعلة النشاط" كما كان يصفها زملائها بموقع الدستور الإلكتروني، قبل توجهها للقاء مصيرها خلال أدائها لعملها الصحفي الذي تغربت من أجله، فهي ابنة المنوفية ذات الواحد وعشرين من عمرها، التي اتخذت من العمل الميداني وتغطية الأحداث الساخنة وسيلة لإشباع طموحها الصحفي. بضع مئات من الجنيهات كان كل ما تتقاضاه ميادة من مكان عملها، دون أي وسائل حماية قانونية أو أمنية، في مقابل وعود بالتعيين ومن ثم الحصول على كارنيه النقابة، الذي يداعب خيال كل منّ يعمل بالمهنة، وهو ما حققته الشهيدة بالفعل بعد أن انتهى مصيرها كجثة هامدة يغطيها الدماء. العضوية الشرفية للشهيدة بنقابة الصحفيين بقدر ما أراحت ضمير رجال "الدشت"، أشعلت غضب أكثر من 5 آلاف صحفي شاب يعملون في 2000 موقع إخباري وجدوا أمامهم أن الوسيلة الوحيدة لاستيعاب نقابة الصحفيين لهم، هي تقديم حياتهم فداءً للمهنة، فكونهم الأسرع في تقديم تغطية ما يحدث في الشارع عبر مواقعهم الإلكترونية المدعومة بصور أكثر ومقاطع فيديو وغيرها من وسائل معلوماتية حديثة، لا تشبع عقول وقفت متحجرة أثيرة لعبق ورق "الدشت". ففي الوقت الذي أوقف فيه عدد لا بأس منه من الصحف العالمية إصداراتها الورقية، اعترافًا بهزيمتها أمام المعركة الإلكترونية، مازال رجال دولة "الدشت" يقفون مكتوفي الأيدي أمام شرط انتساب الصحفي لجريدة ورقية حتى ينعم بالانضمام لنقابة الصحفيين، وفقًا لقانون النقابة 76 لسنة 70، بالرغم من اعترافهم بدوره المهني!. أما محاولات الصحفيين الإلكترونيين في البحث عن بدائل، كإنشاء كيان نقابي يحمي حقوقهم، ويحدد واجباتهم، عبر الاستفادة من قانون الحريات النقابية، خاصة عقب إضافة لجنة الخمسين لتعديل الدستور الصحافة الإلكترونية إلى مواد الصحافة، فيبني أسرى "الدشت" حائلًا أمامها أيضًا، مستغلين المادة 77 من الدستور التي لا تجيز إنشاء أكثر من نقابة في مهنة واحدة. حالياً تقبل نقابة الصحفيين، بأن ينضم لها المحررون العاملون بالمواقع الإلكترونية التي تصدر عن مؤسساتها إصدار مطبوع، ولكن المصيبة الأكبر أن من بين هذه المؤسسات منّ يستغل طاقات الشباب الصحفيين في العمل لحسابهم، دون أي أوراق قانونية تثبت انتسابهم للمكان، وبالتالي فهم غير معترف بهم كصحفيين رسميًا من الأساس. حتى الآن لا يوجد كيان رسمي يحمي حقوق هؤلاء الآلاف من الصحفيين العاملين بالحقل الإلكتروني، بالرغم من تأثيرهم القوي، فلا يمكن إغفال تميز الصحافة الإلكترونية عن الورقية بسرعة تحديث وتعديل وتجديد تغطياتها المختلفة، بالإضافة إلى توفيرها المال والجهد لمتابعتها، كما أنها تتيح وسائل تفاعلية مع القراء لإبداء آرائهم، وتفردها في استخدام وسائط متعددة تدعم المواد الصحفية وتزيد مصداقيتها، بما لا يدع مجالًا للشك في أن المستقبل للصحافة الإلكترونية.. ولكن متى يحن الوقت لرجال دولة "الدشت" ليدركوا ضعف موقفهم في معركة خاسرة أمام صخب الأون لاين، وشبكة عنكبوتية تضم 2.5 مليار مستخدم حول العالم، من بينهم حوالي 40 مليون قارئ مستهدف في مصر.