الصمت يعم المكان، الجميع ما زال في الانتظار، يبدأ عزف الموسيقى العسكرية، ويهب معها الجميع بالوقوف، استقبالًا للبطل المنتصر، بينما هو يدخل من باب الكنيست الإسرائيلي، على خطوات ثابتة، يتبعها تصفيق حاد، حتى جلس الجميع، ليبدأ بعدها "السادات" في إلقاء كلمته. "السيد الرئيس.. أيها السيدات والسادة السلام عليكم.. ورحمة الله.. والسلام لنا جميعًا بإذن الله".. بنبرة معهودة، وثقة بالنفس، يلقي الرئيس محمد أنور السادات، مقدمة خطابه على أعضاء الكنيست الإسرائيلي، في 19 نوفمبر 1977. خطوة جريئة أقدم عليها الرئيس الراحل، وسط اندهاش الجميع، حينما أعلن في أحد خطاباته للشعب المصري بالبرلمان، أنه على استعداد لزيارة الإسرائيليين في بلدهم، إذا كان هذا يخدم المصالح المصرية والسلام العالمي، قالها بكل شجاعة: "ستُدهش إسرائيل عندما تسمعني أقول الآن أمامكم إنني مستعد أن أذهب إلى بيتهم، إلى الكنيست ذاته ومناقشتهم". جملة تصوَّر البعض أنها مناورة سياسية المقصود بها إحراج الإسرائيليين سياسيًا أمام الرأي العام العالمي فقط، دون أن يعني أنه سوف يفعل ذلك حقًا، وحدث الشيء نفسه في إسرائيل، وسارع مناحم بيجن، رئيس الوزراء الإسرائيلي، إلى الاستجابة لحديث السادات، أولًا من خلال توجيه دعوة شفهية إلى السادات للمجيء إلى القدس، ثم بعد ذلك بخمسة أيام أرسل دعوة مكتوبة إلى الرئيس المصري عبر السفارتين الأمريكيتين في تل أبيب والقاهرة. رحلة هدفها السلام، وخطاب امتلأت عباراته بكلمة السلام: "السلام لنا جميعًا.. على الأرض العربية وفي إسرائيل.. وفي كل مكان من أرض هذا العالم الكبير المعقد بصراعاته الدامية، المضطرب بتناقضاته الحادة، المهدد بين الحين والحين بالحروب المدمِّرة، تلك التي يصنعها الإنسان ليقضي بها على أخيه الإنسان". زيارة "السادات" التي ادهشت العدو المهزوم وجعلته يفكِّر كثيرًا في الغرض الأساسي وراءها، ولكنه رد على الأسئلة التي تدور في أذهانهم بصوت مرتفع قائلًا: "لقد أعلنت أنني سأذهب إلى آخر العالم.. سأذهب إلى إسرائيل لأنني أريد أن أطرح الحقائق على شعب إسرائيل". توجَّه السادات إلى إسرائيل جاء وسط رفض وشك العديد من زعماء الدول العربية، لكنهم لم يملكوا بُعد النظر الذي كان يتمتَّع به الزعيم الراحل، الذي وقف وسط الكنيست يطالب قوات الاحتلال بضرورة الإجلاء من كل الأراضي العربية المحتلة، وعلى رأسهم فلسطين. على مدار ما يزيد عن 55 دقيقة تحدث خلالها "السادات" عن تعاليم السلام وويلات الحروب، تاركًا لنا أعظم كلمات قيلت في هذا السياق: "يا أيتها الأم الثكلى، و يا أيتها الزوجة المترملة، ويا أيها الابن الذي فقد الأخ والأب، ويا كل ضحايا الحروب.. املأوا الأرض والفضاء بتراتيل السلام.. املأوا الصدور والقلوب بآمال السلام.. اجعلوا الأنشودة حقيقة تعيش وتثمر.. اجعلوا الأمل دستور عمل ونضال.. وإرادة من الله".