- إن مفهوم التنمية البشرية قد تطور على مدار القرن الماضى، فقد كان المفهوم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية عقد الثمانينات مقتصراً على كمية ما يحصل عليه الفرد من سلع وخدمات مادية، ولكن مع الاهتمام العالمى لمفهوم الحق فى التنمية وصدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم: «41/128» والمؤرخ فى 4 ديسمبر 1986، الذى ورد فى المادة الأولى منه إعلان الحق فى التنمية، على النحو التالى: «الحق فى التنمية حق من حقوق الإنسان غير قابل للتصرف، وبموجبه يحق لكل إنسان ولجميع الشعوب المشاركة والإسهام فى تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية والتمتع بها»، إن النظر للتنمية البشرية باعتبارها أحد حقوق الإنسان يعنى تأسيس التنمية على «الحق» بدلاً من «الحاجة»، والفرق بينهما واضح وشاسع، فالحق هو ما يستحق الشخص بمجرد كونه إنساناً ويمكن فرضه بموجب القانون، ويفرض هذا الحق على السلطة الحاكمة التزاماً بذلك، أما «الحاجة» فهى تطلّع أو طموح قد يكون مشروعاً دون أن يكون مرتبطاً بأى التزام تجاه السلطة أو أى جهة أخرى. - وقد ورد فى نفس القرار فى المادة الثانية منه ما يلى: «الإنسان هو الموضوع الرئيسى للتنمية، وينبغى أن يكون المشارك النشط فى الحق فى التنمية والمستفيد منه»، وبناءً عليه تبنى البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة هذا التصور عند تناوله لمفهوم التنمية البشرية سنة 1990 فى تقريره لأول مرة، حيث أعلن أن الإنسان هو: صانع التنمية وهدفها ومحورها، وظهر مفهوم: المقدرة البشرية بدلاً من مفهوم رأس المال البشرى، وهو ليس أكثر شمولاً منه فحسب، بل يختلف عنه فى منطلقاته العقائدية من حيث اعتبار الإنسان هدف نمو رأس المال بأشكاله المختلفة عوضاً عن اعتبار رأس المال المادى هدفاً لنمو الإنسان، فهدف التنمية، حسب مفهوم المقدرة البشرية، هو زيادة مساحة الحرية المتاحة للبشر ليعيشوا الحياة التى يختارونها ويقدرونها، وبالتالى ظهر هذا المفهوم الحديث للتنمية البشرية: كحالة راقية من الوجود البشرى على اعتبار أن البشر هم الثروة الحقيقية للأمم وأن التنمية البشرية هى عملية توسيع خيارات البشر، ويعود مفهوم الخيارات هذا إلى الاقتصادى «آمارتيا سن» الحائز «نوبل» فى الاقتصاد سنة 1998. - وقد أدى هذا الاختلاف فى المنظور التنموى إلى ظهور فوارق فى موقف برامج التنمية البشرية المبنية على تمكين الإنسان، عن موقف سائر المؤسسات الاقتصادية الدولية من برامج التصحيح الاقتصادى وغيرها من السياسات التى سارت نحوها دول العالم بقوة خلال التسعينات، فلم يكن غريباً أن ينتقد منظرو التنمية البشرية قسوة برامج التصحيح الهيكلى المالى وعدم مراعاتها للتوازن الاجتماعى والتنمية البشرية المستدامة. - ولا بد من الإشارة هنا أيضاً إلى أن التنمية البشرية تعتبر منقوصة إذا تمكنت من تعزيز قدرات الإنسان، دون التمكن من إيجاد الفرص الكافية فى البيئة الاقتصادية والاجتماعية لاستخدام هذه القدرات بشكل فعال، فتطوير المقدرة البشرية ليس عملية أحادية البعد معزولة عن سياقها، بل يأتى كنتيجة لمشروع تنمية متكامل يجعل المقدرة البشرية هدفاً ووسيلة، ويضعها ضمن سياق سياسات متكاملة تستهدف الاقتصاد والسياسة والمجتمع والثقافة، أى تعزيز البيئة التى يوجد فيها الإنسان. - هذا وقد أعلنت الحكومة أن من أهدافها الاستراتيجية تخفيض الفقر والقضاء عليه، وينبغى أن يعتمد هذا بالأساس على مبدأ «تمكين الفقراء» عن طريق بناء مداركهم ووعيهم وقدراتهم، وهذا يعنى بالتالى أن سياسة تخفيض الفقر لا تقوم فقط على حاجة الفقير «المحتاج»، تقدمها الدولة «صدقة» أو «هبة» أو التزاماً أخلاقياً، بل «حق» قانونى تحميه الدولة من الانتهاك وتعمل على إنفاذه من خلال التشريع والإجراءات الإدارية وغيرها، و«مشاركة» الفقراء فى صنع القرار، وبالتالى إن وضع بلدنا وما نخطط لإنجازه يحتم وجود خطة واضحة للتنمية البشرية.