أوهمنا الخطاب الدينى الفاشل الذى نشأنا عليه وعرفنا فيما بعد دوافعه الآثمة أن الناس فى الغرب ضائعون يعيشون حياة الجاهلية الأولى القوى فيهم يأكل الضعيف، والغنى منهم لا يعرف حق الفقير، والذكر عندهم يغتصب أو يتحرش بأنثاهم، والزوجة لا ترعى حق الزوج، والطفل لا يعرف أباه، والإنسان فى الجملة لا يعرف ربه. ويرجع أصحاب هذا الخطاب الدينى المغلوط السبب فى هذا الضياع الزائف بلغتهم الخطابية أو الإعلانية إلى تعظيم الغرب للحريات وكأنها أسلحة لحرب الله ورسوله؛ حتى لا يتذوق الإنسان العربى طعم الحرية التى أطلقها القرآن الكريم ولو فيما يتعلق بالدين إيماناً وفهماً كما قال سبحانه: «لا إكراه فى الدين» (البقرة 256)، ولا يشتم المسلم فى بلادنا رائحة الكرامة التى جعلها القرآن الكريم أصلاً لمعنى الإنسانية، كما قال سبحانه: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ» (الإسراء: 70). فكان أوصياء الدين يضمرون عداوتهم للحريات الإنسانية، ويخفون كراهيتهم للكرامة الآدمية فى صورة خطاب دينى كاذب عن حقيقة الأوروبيين الذين انتفضوا لاستعادة حريتهم وكرامتهم من الكهنوت الدينى الذى حرم الإنسان من حق الفتيا لنفسه، وتقرير مصلحته بعقله. وعندما انتصر الغرب على الظلاميين وظهرت مواهب المغمورين والمهمشين، حتى لا يكاد يوجد إنسان منهم إلا ويعتز بنفسه ويستقل بقراره دون التبعية العمياء لأصحاب الكهنوت الذين جعلوا أنفسهم أرباباً من دون الله، سقط تجار الدين وأوصياؤه فتحقق عند العامة معنى التوحيد الحقيقى الذى جاء به الأنبياء والمرسلون، كما قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» (الأنبياء: 25)، وقوله تعالى: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (آل عمران: 64). بهذا التوحيد الذى تحقق بسقوط الأرباب الآدميين نزلت الفتوحات من السماء بانطلاق ثورات العلوم العملية كالطب والهندسة، والنظرية كالإنسانيات والأدبيات. هنا خشى أوصياء الدين فى بلادنا العربية على عروشهم المادية والأدبية أن تهدم كما سقطت عروش أسلافهم الغربيين وإن اختلفت الأديان؛ لأن الكهنوت لا دين له، كما أن الإرهاب لا دين له، والظلم لا دين له. فقد تجد الكهنوت فى المسلمين كما تجده عند غيرهم. وكانت وسيلة دفاع الكهنوت الدينى فى المسلمين العرب ممن جعل نفسه وصياً دينياً عليهم من أجل بقاء عرشه وتجارته الدينية المربحة فى الدنيا هى حشدهم العرب ضد الإصلاح الغربى، وضد استعادتهم لحرية الإنسان وكرامته دون المساس بسلطان الإنسان على نفسه فى اختيار دينه وممارسة شعائره شريطة ألا تمس حريته حريات الآخرين. واليوم الذى تمر فيه مصرنا الغالية بآثار الأزمات والنكسات المادية والأخلاقية التى افتعلها أوصياء الدين من الإخوان والسلفيين ومشتقاتهم تظهر أزمة المتشيعين الجدد والذين يزيدون الطين بلة بالمطالبة بتمكينهم من إظهار طقوسهم غير المألوفة وشعائرهم غير المعروفة للمصريين، فكانت طلباتهم تلك كالسهام الطائشة التى تلحق الجسد المصرى الآمن، مستغلين سلاح حقوق الأقليات وحقوق المساواة بالطوائف الأخرى. إن الحل يجب أن يبدأ من رفع الوصاية الدينية عن المصريين، والذى يكذب فيه أصحابه بزعم امتلاكهم للصواب الذى لا يحتمل الخطأ؛ لأنه بسقوط هذا الكهنوت أو الوصاية الدينية سيتمكن كل المصريين من استرداد سيادتهم على عقولهم وقلوبهم، وسنرى أفكار الملايين وإبداعاتهم تنهمر فى إيجاد الحل للمعضلات بدلاً من الدائرة المفرغة التى يعيش فيها أكثر المصريين مع الفكر العقيم من حفنة أوصياء الدين. ولن يجد المصريون مانعاً دينياً من استدعاء التجربة الغربية التى يعيش فيها الناس باختلاف دياناتهم ومذاهبهم وفرقهم ولغاتهم فى سلام، حتى إن المتشددين من أى طائفة سلفية أو إخوانية أو شيعية أو جهادية عندما يذهبون إلى إحدى الدول الغربية للسياحة أو للعلاج أو للإقامة بصفة دائمة بعد حصولهم على الجنسية يحترمون أنفسهم ويلتزمون بقانون البلد ولا يعدون ذلك تفريطاً فى الدين أو انتقاصاً من حقوقهم، مما يثير التساؤل عن افتعالهم للأزمات الدينية فى بلادنا العربية. إن النبى، صلى الله عليه وسلم، كان يستمد بعض الخبرات والمصالح الإنسانية من اليهود والنصارى، وكان فى إمكانه أن يعتمد على الوحى بسؤال ربه، إما مباشرة وإما عن طريق جبريل عليه السلام ليخبره بحل المشاكل الإنسانية التى تواجهه، إلا أنه أراد أن يعلم كل البشر أنه جاء منهم ولهم، وأن خدمة الإنسان ورعاية مصالحه فوق الاختلافات الدينية، وأنه لا يجوز لطائفة آدمية ولو كان فيها الرسول، صلى الله عليه وسلم، نفسه أن تحتكر العلم بمصالح الإنسان، فقد أخرج الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشىء. وأخرج مسلم عن جدامة بنت وهب الأسدية أنها سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «لقد هممت بأن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم». والغيلة هى حمل المرأة فى فترة إرضاعها، أو لقاء الزوج لزوجته وهى حامل. وكان العرب يظنون أن الغيلة تضر الأطفال فحسم النبى، صلى الله عليه وسلم، ذلك باستدعاء تجربة الروم (النصارى) وفارس (المجوس وعباد النار)، فاطمأن العرب. إن الغرب نجح عندما أسقطوا الكهنوت الدينى والوصاية الدينية فتمكن الإنسان من حريته وكرامته، وتحقق توحيد الله الذى يظهر إبداع كل إنسان وموهبته، وهذا ما نفتقده فى بلادنا العربية بسبب الأمية المقصودة من أوصياء الدين الهادفين إلى تجنيد الأتباع والمريدين لهم بالمخالفة لقوله سبحانه: «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ» (الإسراء: 13). وسيحاول أوصياء الدين استمرار مشاغبتهم بإلقاء الضوء على ارتكاب الذنوب فى الغرب لإقفال قلوبنا عن الانتفاع بثمار حضارتهم الإنسانية فى نظام الإدارة والحكم وتأمين الشارع ونظافته. ولعل ما يسكتهم أو يخرسهم هو مواجهتهم بانتفاعهم لدرجة الإغراق بحضارة الغرب لأنفسهم وذويهم من استعمال السيارات والطائرات والأجهزة الكهربائية والإلكترونية والملابس بل والدواء، وفوق ذلك الأمان على أنفسهم بهجرتهم طلباً للرزق أو اللجوء السياسى، وإيداع أموالهم بالبنوك الغربية التى لا يستطيعون وصفها بالربوبية، مما يدل على أنهم مزدوجو الخطاب والمعاملة. هذا بالإضافة إلى أن الذنوب الدينية مبناها المسامحة لتعلقها بحق الله الكريم الرحيم، والذى جعلها تسقط بالتوبة التى نكتمها عن المذنبين والذين إن عرفوها أحبوا الله تعالى وأقلعوا عن المعاصى. أما الأخطاء فى حق الإنسان بإساءة إدارة شئونه، فهى أخطاء لا توبة فيها، وليس لها إلا القصاص العادل من الإله الحق بين ذوى الحقوق دون التفرقة بينهم بدين أو عرق أو جنس، وصدق الله تعالى، حيث يقول: «وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا» (طه: 111).