آن الأوان لتصحيح الخطاب الدينى الذى خدع الناس بإعلاء الشعار على المضمون، وتقديم الشكل على الجوهر، وتعظيم الاسم على المسمى، فاعتبر المسلم هو من انضم إلى عصابة لا تعرف من الإسلام إلا شعاره وشكله واسمه، واعتبر غير المسلم هو الخارج عن عصابته ولو كان موحداً بالله وبرداً وسلاماً على الإنسانية. وإذا كنا مؤمنين بالقرآن والسنة حقاً فعلينا أن نتبع دلالاتهما التى تقنع فطرة الإنسان السوية وتطمئنه على أن خطاب السماء لكل البشر، فليس أحدهم أولى بالحظوة فى الله من الآخر؛ لأنه العدل الذى منح خلقه من بنى آدم بالسوية كلاً على قدر أجله فرصة العمل والمعصية والتوبة فى الدنيا، على أن يكون الحساب فى دين الله يوم لقائه، لمنع المزايدة الدينية بين الناس إلا فى دار الحق التى تعرض فيها أعمال البشر وفهومهم، ويرى فيها كل مكلف ما قدم من نفسه على نفسه، عملاً بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» (المائدة: 105). أما أن يقتنع إنسان بدين معين ولو كان هو الإسلام على فهم يرضيه كفهم السلفيين أو الإخوان أو الجهاديين ثم يكره الناس على اتباعه، أو يعتبر غير المؤمنين بفهمه كفرة أو زنادقة فهذا منازع لله فى دينه الذى جعله حقاً لكل مكلف، ولم يفوض فيه أحداً من خلقه حتى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم الذى قال له: «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ» (الغاشية: 21)، وقال له: «مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ» (المائدة: 99)، وأمره بقوله: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف: 29). فكيف بالرسول صلى الله عليه وسلم يترك الناس أحراراً فى اختيار دينهم وأحراراً فى فهم كلام ربهم ثم يأتى الأقزام المتألهون على الناس فيفرضون عليهم فهمهم المتقلب وثقافتهم المتغيرة على أنها دين بالإكراه والله الحق يقول: «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ» (البقرة: 256)؟ إن الدين نزل من السماء لتمكين كل إنسان من سيادة نفسه على نفسه فى علاقته مع الله، وهذا معنى قوله تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» (البينة: 5)، والإخلاص ذاتى لا يكون بالسمع والطاعة للأمير أو المرشد أو الإمام، وإنما يكون باستحضار النفس واستجماع القلب من الإنسان، فيما يعرف بالنية التى وردت فيما أخرجه الشيخان عن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمال بالنيات»، فمن كان على دين الله حقاً كان صاحب سيادة على نفسه، كما ورد فيما أخرجه ابن عدى فى «الكامل» بإسناد حسن عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «كل بنى آدم سيد» أى سيد فى دين الله. وبهذا يتضح أن المعركة الحقيقية هى ما بين انتصار الإنسان لكرامته وسيادته على نفسه وبين عدوان المتألهين على الناس وظلم من فرض نفسه وصياً دينياً عليهم حتى كذب على الله بنسبة نتيجة اجتهاده البشرى إليه سبحانه مع تحذير القرآن فى قوله تعالى: «وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ» (النحل: 116)، وقد أعذرنا القرآن الكريم عندما حذرنا من الاغترار بالأشكال والأسماء الدينية التى يختبئ وراءها أعداء الإنسانية المنافقون فى الأرض فقال سبحانه: «وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ» (المنافقون: 4). لقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم تعريفاً للمسلم وتعريفاً للمؤمن، ليعين الكرماء وأصحاب السيادة على الثقة فى أنفسهم، ويمنحهم معيار التمييز الحقيقى بين الناس فى الدنيا وهو الظلم والعدل، أو الإصلاح والإفساد، أو التعاون على البر والتقوى والتعاون على الإثم والعدوان، وليس معيار المتألهين القائم على تصنيف الناس فى الدنيا بالإسلام والكفر، أو بالسنة والبدعة، أو بالدين والزندقة، فأخرج الإمام أحمد والنسائى بإسناد صحيح عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم». ويترتب على هذا التعريف الإنسانى للمسلم والمؤمن أن يكون تعريف العدو هو الكاره للإنسانية والسلام والأمان، ولو كان موافقاً لك فى اسم الدين، فكم من مختبئين فى أسماء دينية وهم من زعماء المنافقين الذين وصفهم القرآن الكريم بكراهية الخير، وأمرنا إن ابتلينا بهم أن نصبر على مقاومتهم فقال سبحانه: «هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ* إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» (آل عمران: 119-120). عرف المصريون بدينهم السوى أعداءهم الذين يسوءهم استقرار المعايش وانتظام التعليم ودوران عجلة الاقتصاد، ويفرحهم نزيف الدم وإشعال الحرائق وبث الرعب، وكان ذلك واضحاً فى حدث الشيخ زويد بسيناء يوم الجمعة 24 أكتوبر 2014 م خاتمة السنة الهجرية 1435 ه لتشهد قبل وداعها ارتفاع ثلاثين روحاً من أزكى أرواح خير أجناد الأرض إلى بارئها بيد الغدر والغيلة وشماتة الإخوان وأذنابهم. ونجح المصريون فى التنكيل بأعدائهم وإغاظتهم فجعلوا من المحنة منحة، واجتمعوا على توحيد قرارهم من القصاص، وعدم مهادنة أهل الخسة، والإصرار على المضى فى مسيرة العطاء والبناء والإعمار، وتجديد الثقة فى قيادتهم الرئاسية، والوقوف بقوة خلف جيشهم الأبى وشرطتهم الباسلة فى إدارة حرب مقدسة عهدها هو القضاء على الإرهاب جسدياً وفكرياً استجابة لقوله تعالى: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» (الأنفال: 39).