من أكثر العبارات «وجعاً» فى السينما المصرية، عبارةٌ قالتها زوجةٌ تعسة لزوجها، فى لحظة صراع بين شعورها بأنوثتها، وبين واقع مرّ تحياه فى بيتها البسيط. فى فيلم «أحلى الأوقات»، «يسرية»، زوجة شابة، وزوجها «إبراهيم»، المطحون بتربية الأطفال وتوفير الضرورات الأولى لبيته. سألها باستنكار، بعدما لمح بوادر تمرد تظلل حياتهما الكادحة: «انتى عاوزة إيه بالظبط؟!»، ففاجأته بآخر ما كان يتوقعه: «أنا عاوزة ورد يا إبراهيم!». ورد؟! ما هذا الجنون؟! الورود ليست ضمن أدبيات أسرة بالكاد تجد خبزاً يقيم الأود، وقطع قماش رخيصة تستر العُرى! فمتى وكيف اخترقت هذه الكلمة «الغازية»، الآتية من كوكب آخر، جدرانَ هذا البيت الحزين؟! الزوج يرى أنه لو امتلك ثمن بعض الورود، لكان أولى به أن يجلب ربع كيلو من اللحم ليتعرف عليه الأطفال! والزوجة ترى أن من حقها كامرأة أن تزورَ الزهورُ بيتها ولو مرةً كل عام! لم تكن «يسرية» بحاجة لأن تلتقى صديقاتها اللواتى تنتثرُ الزهورُ تحت أقدامهن لتتأكد أنها أيضاً امرأة تهوى الزهور. لكن الزوج يرى فى مطلب زوجته فجاجة و«قلّة عقل» بل و«تهتكاً» سببه صديقاتها «المنحرفات» اللواتى تلتقيهن خلسة بعيداً عن عينيه! وتبدأ حرب الأولويات. تخبرنا عالمة الأنثروبولوجى الأمريكية البروفيسور هيلين فيشر، فى كتابها «لماذا نحب؟ طبيعة الحب وكيمياؤه»، بأن الأزواج بحاجة إلى تعديل برنامج «الأولويات» بين الحين والآخر لكى يستطيع الإنسانُ مواصلة رحلة الحياة الصعبة. الزهور فى حالة «يسرية» صارت، فى تلك اللحظة، «ضرورة» مُلحّة، وليست رفاهية وكماليات لا ضرورة لها كما يرى الزوج الساخر من «تبجحها». ولا محل للسخرية حال الكلام عن الضرورات. لن تكلّف الزوجَ لشراء بعض الزهور لزوجته إلا بعض الجنيهات، أعلم سلفاً أنها ضرورية لأمور حيوية أخرى مثل الطعام وكراسات المدرسة، لكنها كذلك «أكثر من ضرورية» لانتشال زوجته من هوّة الإحباط التى سقطت فيها فى هذه اللحظة. أتقن «خالد صالح» أداء دور الزوج الفظ الغليظ، الذى يفنى عمره، وعمر من معه، سعياً وراء غرائز الكائن الحى «الدنيا» من طعام وتناسل ورغبات جسدية، دون الاهتمام مطلقاً بغرائز أخرى «عُليا» مثل شعور الإنسان بآدميته وثقته فى أن مطالبه البسيطة فى الحياة محلُّ اهتمام الطرف الآخر، مهما بدت تلك المطالبُ فى عين الشريك «تافهة» لا قيمة لها. وفى المقابل هناك أزواج «أذكياء» يعرفون كيف يحافظون على مشاعر زوجاتهم، مهما قستِ الحياةُ وظلل الشظفُ والعوز مطالب الصغار. السؤال هو: كم نسبة الغلاظ من الرجال، إلى نسبة الأذكياء منهم فى مصر وفى المجتمع العربى السعيد؟! كلمةٌ حانية من الزوجة لزوجها حين يعود من العمل مكدوداً، قُبلة طيبة من الزوج على يد امرأته بعد جهدها فى طهو الطعام، صديرى من الصوف تغزله الزوجة على إبر التريكو لزوجها (كما كانت جدّاتنا يفعلن)، وردة صغيرة يضعها الرجل على وسادة زوجته عند المساء، أمور جدُّ بسيطة وغير مكلفة قد تحول دون كوارث، سببها، ليس العوز وشظف العيش وعسر العمل والمواصلات والعذاب اليومى من أجل لقمة العيش، إنما السبب هو نسياننا أننا بشرٌ نحتاج إلى بعض الدعم النفسى لنصمد ونستمر، ربما أكثر مما نحتاج إلى رغيف الخبز ورشفة الماء. دعونا لا نسمح للحزن بأن يتغلغل داخل نفوسنا، حين لا نكتفى بقسوة الحياة علينا، فنزيدها عُسراً بأن نقسو على بعضنا البعض. يقول «شكسبير» فى إحدى مسرحياته: «الحزنُ الصموت يظل يهمس فى القلب حتى يكسره».