نجح الخطاب الدينى عند أصحاب اتجاه الإسلام السياسى الفاشل فى تعقيم العقل وتفريغه بكل السبل الشيطانية، بعد وصفها -للأسف- بالسبل الإسلامية عن طريق سلاح الإعلان (بالنون) الخادع وترويج الباطل على أنه الحق، مستغلين فى ذلك الأمية التى يحرصون على بقائها وانتشارها، والتى تمكنهم من صرف الناس عن دين الله الذى يؤكد سيادة الإنسان على نفسه، ويدفعه إلى تحمل المسئولية الذاتية، ويبث فيه روح الثقة فى النفس باستفتاء القلب إلى دين آخر كتبوه بأيديهم، يجعل السيادة لمرشدهم أو أميرهم ويلغى عقول الأتباع والمريدين، فلا يفعلون إلا ما يُملى عليهم ولا يتأخرون عن طاعة محركهم الذى يصدقونه أكثر من تصديقهم لقلوب أنفسهم وعقولها؛ لاعتقادهم أنه يرى ما لا يرون، وأنه وكيل عن الله فى الأرض، والعياذ بالله تعالى. وكان من تلك السبل الشيطانية التى وصفوها بالإسلامية تقبيح الإبداع والتجديد فى الدين الذى دعا إليه الرسول، صلى الله عليه وسلم، فيما أخرجه أبوداود بإسناد صحيح عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». وكانت الحرب على الإبداع والتجديد بتوجيه حديث البدعة الذى ورد فى منع الجهالات والظلمات على أنه مانع من الإبداع والتجديد، فقد أخرج مسلم عن جابر بن عبدالله، أن النبى صلى الله عليه وسلم، كان يقول: «إن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة». إن العاقل يفهم سياق حديث البدعة هذا، على أنه مقابلة بين الحق الظاهر كالكتاب والسنة وبين الباطل اللجلج، كأوهام أوصياء الدين، كما قال تعالى: «اللَّهُ وَلِىُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ» (البقرة: 257). إلا أن هؤلاء الأوصياء أبوا إلا ضرب السّنة الآمرة بالإبداع والتجديد بالسنة الناهية عن البدعة والجهالة ليفرضوا زعامتهم الدينية التى تمكنهم من سوق الناس إلى أطماعهم السياسية التى جعلوا رمزها «الخلافة الإسلامية»، وصدّروا مشروع الخلافة على أنه الفريضة الغائبة، وأنه مفتاح الجنة للمسلمين، فضلاً عن كونه المحقق للرفاهية والرخاء فى الدنيا، فهو البديل عن الزراعة والصناعة والتجارة والتعليم والصحة؛ مدلسين بما رُوى عن الإمام مالك أنه قال: «لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها»، وبقوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» (الأعراف: 96). ولا أدرى ما علاقة قول الإمام مالك بالخلافة؟ إنه يتحدث عن القيم والمبادئ الأصيلة التى قامت عليها الدنيا من العدل والتعاون وكرامة بنى آدم، كما أنى لا أدرى ما علاقة الإيمان بالله وتقواه بأمر الخلافة المزعوم؟ غير أن الاندهاش يتبخر إذا أدركنا أن المروجين لهذا الخطاب يتاجرون بالدين، بل يتاجرون بكل شىء من أجل إنفاذ أطماعهم السياسية. ولكن آن الأوان لفيقة أتباع مشروع الإسلام السياسى الخادع ويقظة مريديهم عندما تعلن رموزهم الدينية تراجعها عن حلم «الخلافة الإسلامية» إلى ما عبر عنه الدكتور القرضاوى، كما ورد فى جريدة «اليوم السابع» فى 20 أكتوبر 2014م، بأن الخلافة الجديدة يمكن أن تكون اتحاداً فيدرالياً أو اتحاد كونفيدرالياً، وهو نفسه ما ردده من قبل الدكتور أحمد ريان عضو هيئة كبار العلماء فى جريدة «صوت الأزهر» يوم 17 أكتوبر 2014م، بأن الاتحاد الإسلامى هو البديل عن الخلافة الإسلامية. والمتتبع لمنهجية أوصياء الدين فى مشروعهم السياسى سيجد ترديد كل أتباعهم لمقولة أسيادهم بأن الخلافة الإسلامية الجديدة فى الاتحاد الفيدرالى. وكان المنطق الطبيعى من هؤلاء الأتباع بدلاً من ترديد ما يُملى عليهم أن يحاسبوا قيادتهم لماذا تخليتم عن «مشروع الخلافة الإسلامية» الذى جندتمونا من أجله؟ ولماذا لا تصدقونا القول بأنه كان مشروعاً وهمياً خادعاً كمشروع نهضتكم الخرافى، لحشد الناس لتحقيق أطماعكم السياسية، فلما فشلتم فيها جعلتم رموزكم الدينية تحتال على «الخلافة الإسلامية» بالبديل الاتحادى. إن الجماعة الناجية بشهادة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كما ورد فى حديث أبى أمامة وغيره عند الطبرانى وغيره هى «السواد الأعظم» الذين ينتمون إلى الأسرة الإنسانية ويغارون على بلدهم الذى استوطنوه كالرسول صلى الله عليه وسلم، الذى أخلص لمكة التى نشأ فيها ولم يغدر بأهلها، رغم غدرهم به صلى الله عليه وسلم، إلى أن أخرجوه منها، فاستوطن المدينةالمنورة وأخلص لأهلها وأرضها حتى مات ودُفن فيها، وهذا ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سألوه عن السواد الأعظم؟ فقال: «الذين هم على ما أنا عليه وأصحابى». إن هذه الجماعة الوطنية التى تأست برسول الله، صلى الله عليه وسلم، فعاشت فى مصر المحروسة بسوادها الأعظم تحفظ أرضها وترعى شعبها ولا تخون أهلها، تقدم الدرس الأخير لأتباع تيار الإسلام السياسى الخادع بشأن الخلافة، وهو: أن «مشروع الخلافة الإسلامية» بدعة وضلالة حسب تفسير أوصياء الدين أنفسهم؛ لأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، لم يعلن فى حياته أمر الخلافة، ولم يوصِ بها، بل لم يضع شكلاً معيناً لنظام الحكم من بعده، وهو يعلم أنه مقبوض كسائر الخلق، فهو قاصد إلى ذلك وعامد إليه حتى يترك الناس فى سعة الاختيار لما يرونه صالحاً لهم فى كل زمان وفى كل مكان، مما يدل على أن المروج إلى نظام الخلافة الإسلامية مروج لأمر محدث وبدعة يوصف بالضلالة كما قال، صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة». ولا يُقال إن الخلافة الإسلامية من عمل الخلفاء الأربعة الذين أمرنا النبى، صلى الله عليه وسلم، باتباعهم من بعده، فيما أخرجه أحمد وأبوداود والترمذى بإسناد حسن عن العرباض بن سارية، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «إياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة، فمن أدرك منكم، فعليه بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ»؛ لأمرين: (1) أن الخلفاء الراشدين غير محصورى العدد، ولم يضعوا نظاماً للخلافة الراشدة لا فى اسمها، ولا فى تحديد المسئوليات، ولا فى تقسيم السلطات، ولا فى كيفية الاختيار للخليفة؛ فقد بويع لأبى بكر الصديق بوصف خليفة رسول الله، ثم استُخلف عمر الذى اختار وصف أمير المؤمنين، وجعلها لمن بعده فى ستة، ثم صارت خلافتان لعلى ومعاوية، ثم جمعهما أبوجعفر المنصور، ثم تفرقت واجتمعت وتفرقت. (2) أن المقصود بالخلفاء هم من يأتون بعد وليس الملقب بالخليفة كما قال تعالى: «وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ» (النمل: 62)، فكل إنسان يأتى بعد الرسول، صلى الله عليه وسلم، ويقدم للإنسانية أفكاراً تخدم استخلافهم فى الأرض كفكرة الجنسية الوطنية والنظام الدستورى والانتخابى، فهو من الراشدين المهديين، وليس بالضرورة أن يكون هذا الإنسان المجدد حاكماً، فقد أخرج مسلم عن جرير بن عبدالله البجلى أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «من سنّ فى الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شىء، ومن سنّ فى الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شىء». إن تلبيس أوصياء الدين الإبداع بالبدعة والتجديد بالمحدثة هو المضيّع لعقول أتباعهم فى كثير من السنن التجديدية حتى قالوا للحق عند السواد الأعظم: «قُلُوبُنَا غُلْفٌ» (البقرة: 88).