بعينين شاردتين، جلس الطفل أحمد خالد، أمام نافذة تسرب إليها الضوء، يتأمل الأزهار فى الحديقة الأمامية لمستشفى الحروق بالعبور، التى لم يفارقها منذ حوالى مائة يوم، فصلته عن أسرته، يغلبه الألم فيبتسم باكياً، لكن دون شكوى، لم تصحبه فى رحلة علاجه داخل المستشفى سوى جدته العجوز التى لم تفارقه منذ ذلك اليوم الذى رأى فيه الصغير الموت بعينيه وهو صاحب الأعوام التسعة. يتذكر «أحمد» ما مضى وترك آثاره عالقة فى كل جزء من جسده قائلاً: «كنت مع بابا فى الورشة بنجرب بطارية، وبابا بيشغلها عملت ماس فى الوقت ده الصبى اللى شغال معاه كان جايب جركن كبير فيه بنزين لما حصل الماس الجركن ولع أنا خفت وجريت قام الصبى ماسك الجركن عشان يتخلص منه ورماه بسرعة ناحيتى النار مسكت فيا مشفتش غير بابا بيجرى عليا يطفى فيا بإيده، وشالنى وجرى بيا يرمينى فى البحر عشان يطفى النار كنت حاسس إن رجله بتتكلبش فى الأرض وده آخر حاجة كنت فاكرها بعدها مصحتش غير فى المستشفى». المستشفى الذى انتقل إليه الصغير فى الفيوم محروقاً بنسبة 100%، كما أكد لنا الدكتور أحمد حسن الطبيب المعالج، لم يجن منها سوى مزيد من الألم والمعاناة، يقول أحمد: «رحت مستشفى الفيوم كان مستشفى وحش، وأنا بعيط وبصرخ محدش سأل فيا». يصمت «أحمد» لحظات لتتناول جدته الستينية نادية محمود حسن، طرف الحديث قائلة: «أول ما أحمد اتحرق جرينا بيه على أقرب مستشفى كان مستشفى مركز إطسا اللى رفضتنا، لأن أحمد كان محتاج يدخل العناية المركزة ومفيش فيها إمكانيات لإسعافه وحولتنا على مستشفى الفيوم هناك ملقناش دكتور، ولا حد سأل فينا كل اللى عملوه للولد وهو حتة فحمة ركبوا له محلول «جلوكوز» وكان محتاج أدوية وغيارات للحرق صرفنا فى كام ساعة أكتر من 1000 جنيه علاج، ومفيش دكتور واحد شافه حتى كأنهم بيقولولنا خدوا ابنكم وروحوا عوضكم على الله». تمسح السيدة العجوز دموعها، متذكرة مشهد والد الطفل وقد حرقت يداه وهو يحاول إنقاذ ابنه الوحيد الذى يصارع الموت أمامه وتواصل: «فى مستشفى الفيوم لاقيت ممرضة بتقرب منى وتقولى يا حاجة لو عاوزه تعالجى ابنك من غير ما تعذبيه وتعذبوا نفسكم وتدفعوا اللى حيلتكم على الدكاترة والدواء روحى مركز متخصص ودلتنا على مستشفى الحروق والأورام اللى فى العبور، وفعلا نقلنا أحمد المستشفى ودخل العناية المركزة شهر ونص، لحد ربنا ما كتبله عمر جديد». أما الأب، فأصابته الصدمة بذهول وأغلق ورشتة حسبما أكدت الجدة قائلة: «البلد كلها حزينة عليه كل الناس كانوا بيكلمونا عاوزين يتبرعوا بدم لأحمد، وأبوه من يوم الحادثة قافل الورشة ومش قادر يشتغل مع أن الورشة مصدر رزقه الوحيد ومفتوح من وراها بيتين».