انطلاقاً من كونى عضواً فى لجنة «البيئة» بالمجلس الأعلى للثقافة، والبيئةُ تجرحها القمامةُ، وانطلاقاً من كونى إنساناً ينزعج من القبح وعدم النظافة، شأن معظم البشر، وانطلاقاً من كونى مصرية أنتمى لأول دولة فى التاريخ، علّمت العالمَ النظامَ والنظافة والأناقة، بدأتُ حملة ضد القمامة فى مقالاتى. كان آخرها الأسبوع الماضى فى مجلة «7 أيام» فى مقال عنوانه: «العيون النظيفة». حيث قارنتُ بين العيون النظيفة والعيون غير النظيفة. الأولى تعوّدت على رؤية الجمال، فترفض قبول القبح مهما انتشر وشاع وملأ الدنيا؛ وتأبى أن «تعتاد» مرأى القذارة والفوضى والنشاز البصرى، مهما تعالت تلالُ القمامة وألوانُ المبانى الصادمة والعشوائياتُ التى تجرح وجه مصر منذ عقود. والأخرى لم تعد تنزعج من مرأى القبح، إذ أصبح شائعاً ف«تعوّدت» عليه، وربما تطورت لتدخل فى مرحلة «صناعة القبح» وإنتاجه والمشاركة فى نشره وإشاعته. وحكيت فى المقال قصة افتراضية تصوّرت فيها كيف تحوّلت القاهرة، التى حصلت عام 1925 على وسام أجمل وأنظف مدينة فى حوض البحر المتوسط وأوروبا، إلى ذلك الكيان الفوضوى الأشوه الذى يكاد ينفجر بتلال القاذورات، فى أحشائه وأحيائه الثرية والفقيرة على السواء. ذاك أن النظافة لا علاقة لها بالمال، ولا شأن لها بالثراء والفقر، بالمناسبة يعنى. لابد أن رجلاً ما قبل خمسين عاماً ألقى ورقةً فى شارع نظيف. فشاهده رجلٌ آخر، فاندهش وغضب، لكنه قال فى نفسه: «وأنا مالى!». وفى اليوم التالى والتالى والتالى تكرر المشهد، فلم يعد الرجل الثانى يندهش ولا يغضب، بل تطور وقرر مشاركة الرجل الأول فى إلقاء القمامة فى الطريق، وكلٌّ منهما يبتسم للآخر فى تواطؤ. وكثُر المتواطئون مع الأيام، وكثُرت الابتسامات حتى تكوّن أول تلّ قمامة صغير، تحوّل بعد برهة إلى تلٍّ كبير، ثم إلى هضبةٍ، ثم إلى جبل شاهق، ثم جبال كثيرة اختفت معها معالمُ المدينة الطيبة، فسقط من على صدرها وسام النظافة والجمال. بعد عام، جاء رجلٌ (نظيف العينين) من العهد القديم، يحمل زجاجة مياه فارغة ويبحث بعينيه عن صندوق قمامة فلا يجد. سأل أحدَ المارة أين بوسعه أن يلقى مخلفاته، فابتسم الأخيرُ فى شفقة وقال: «فيه إيه يا عم؟! ما ترميها فى أى حتّة؟! الأرضُ صندوقُ قمامتنا!» هكذا تتكون الثقافات والعادات، بتراكُم السلوك. فالذى اندهش من مرأى القبح أول يوم، اعتاده فى اليوم التالى، وصنعه فى اليوم الثالث، ثم دعا إليه فى اليوم الرابع. السلوكُ المتكرر يصبح عادةً. والعادةُ تصبح ثقافة. والثقافة تصير نهجاً وأسلوب حياة. تكرار السلوك الشاذ، ينزع عنه شذوذه، فيصبح مع الوقت اعتيادياً وطبيعياً، فإن حاولت مقاومته أصبحت أنت الشاذ، ونظر إليك الناسُ بشفقة، وربما شتموك وضربوك. علّقت المعلّمة «نجاح زكى» على مقالى بحكاية موجعة قائلة: «أعمل بالتدريس منذ أربعين عاماً. زمان اللى كان يوسخ الفصل كان آخره يرمى ورقة فقط، وكان رد الفعل قوياً وكأنه ارتكب جريمة. مع الوقت، وشيوع عبارة: «أنا حر»؛ أصبح «الفرّاش» هو المسئول الوحيد عن رفع القمامة من الفصول وليس تنظيف الغبار عن الأرضيات والمقاعد. فبمجرد دخول التلاميذ الفصول، تصير قذرة بشعة، لكيلا تؤذى «النظافةُ» عيونَ «الأحرار»!!