الشيطان اسم أو صفة لكل مفسد فى الأرض، أو مضلل للحقيقة. وليس بالضرورة أن يكون الشيطان من الجن، فقد تكون شياطين الإنس أشد خطراً وضرراً على أنبياء بنى آدم وصالحيهم، ولذلك بدأ الله بذكرهم فى قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (الأنعام: 112)، وهذا كشف لأسوأ أدوات الشيطان التى ينهار أمامها ضحاياهم، وهو زخرف القول ومعسوله وغرور الأحلام وخيالاتها مع إضمار توريط الإنسان المستهدف أمام نفسه، حتى إذا ما اندفع فى الطريق الذى رسمه له الشيطان لم يملك العودة، وإذا ما وقع فى الشراك أو الفخ لم يستطع أن يلوم إلا نفسه، كما يصور ذلك الإمام على بن أبى طالب فى قوله: يعطيك من طرف اللسان حلاوة *** ويروغ منك كما يروغ الثعلب وليت الشيطان يروغ من فريسته بهدوء، وإنما يلاحقه بالتجريس والتقريع حتى فى مثواه الأخير، ليزيد عليه الآلام والأوجاع كما ورد فى القرآن الكريم عن خطبة الشيطان الشهيرة وموعظته لأتباعه فى قوله سبحانه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلَا تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (إبراهيم: 22). وتتنوع أوجه غرور الشيطان بحسب تعدد الجهات الأربع الأصلية التى تلاحق الإنسان فى مستقبله وماضيه وفيما يحب ويكره أو يخاف، كما قال تعالى: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف: 17). وقد أعذرنا الله -عز وجل- عندما بين فى كتبه السماوية عداوة الشيطان لكل إنسان مستقيم، واستهدافه لكل إعمار حتى يحوله إلى دمار فقال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} (فاطر: 6). والتحصن من الشيطان ليس سهلاً لاختبائه فى صورة ولى أو ناصح أمين، وهذا ما يستوجب على من أراد النجاة منه وإغاظته فى الوقت نفسه أن يفتح عقله لكل مشورة، وأن يستوعب كل نصيحة، التى كثيراً ما يكون منها إنتاج شيطانى خفى، فإذا جاء وقت اتخاذ القرار استجمع صاحب الشأن نفسه ونطق بما يمليه عليه ضميره إن كان الأمر يخصه وحده. أما إن كان الأمر يخص الشعب، فإن أصحاب الشأن فيه يستجمعون أنفسهم وينطقون بما تمليه عليهم ضمائرهم دون الركون إلى فكر الغير أو نصيحته، كما قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِى الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159)، وهذا ما يعرف بتحمل مسئولية اتخاذ القرار الذى يجب أن يكون ذاتياً كما قال سبحانه: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ} (الإسراء: 13). وبهذا يجد الشيطان نفسه خارج نطاق الخدمة لعقول ذوى القرار الذين عظَّموا المشورة بين ذوى الشأن -كتشاور مجلس إدارة الشركة فيما يخصها- على مبدأ القبول إلا إذا ثبت العكس، واستوعبوا المشورة المستوردة من غيرهم على مبدأ الرفض إلا أن يثبت العكس؛ لأن الشيطان يختبئ أكثر ما يختبئ فى الغير، وإن كانت حيله لا تمنعه من الاندساس بين أصحاب الشأن، الأمر الذى يجعل الحريص منهم محتكماً إلى قلبه، فهو أصدق من يحدثه مهما كان غرور قول الآخرين الذين قد يختبئ فيهم الشيطان؛ عملاً بالمثل الشعبى «حرص ولا تخون»، وهو ما قاله النبى -صلى الله عليه وسلم- لوابصة بن معبد، كما أخرجه أحمد: «استفت قلبك، استفت نفسك، وإن أفتاك الناس وأفتوك». ولا يخفى على أحد من المصريين الشرفاء أن النظام الأمريكى يسعى إلى امتلاك زمام أمور العالم بأدوات الشيطان وحيله سالفة الذكر، ولا يعنيه إلا الاستيلاء على مقدرات الشعوب والسيطرة عليها بما يحبون حتى تستقر أطماعه فيهم. فإذا كانت شعوب الوطن العربى محبة لدين الإسلام، فلا مانع من صناعة إدارة توصف بالإسلامية حتى تتمكن من حشد البسطاء وامتلاكهم بهذا الوهم الخادع، وتستطيع الإدارة الأمريكية أن تنفذ إلى أطماعها من خلال صنيعتها الإسلامية تلك. ولا يخفى على أحد من أهل العلم أن الإسلام صفة لدين الله، ولا يجوز أن يتصف به مخلوق ولو كان نبياً رسولاً، فكل بشر يمكن وصفه بأنه مسلم ولا يوصف بأنه إسلامى؛ لأن المسلم كسائر البشر سيحاسب يوم القيامة عن عمله وعن دينه، فقد يكون فهمه للإسلام صائباً فيكون صاحب أجرين، وقد يكون فهمه للإسلام خاطئاً فيكون صاحب أجر واحد، وقد يكون معطلاً لفهمه ومنساقاً وراء أميره أو مرشده فيكون محروماً من الأجر تماماً، كما قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} (الأحزاب: 67-68). فكيف بمسلم أو بمسلمين يعترى تصرفهم صفة الخطأ والصواب أن يوصفوا بالإسلاميين وكأنهم فى مرتبة أعلى من مرتبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذى وصفه ربه بأنه: {أَوَّل الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 163)، وفى مرتبة أعلى من مرتبة الأولياء والصالحين الذين أمرهم القرآن أن يقولوا بأنهم من المسلمين وليسوا إسلاميين، فقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 33)؟ لكن فى مصلحة الشيطان الأمريكى أن يحكم العرب بالكهنوت الدينى لأنه أفضل منوم للعقول، فتبنى هذا الشيطان رعاية جماعات الفاشية الدينية من الإخوان والسلفيين، وكل من يعتمد فى فهمه الدينى على فكرة السيطرة على الغير والاستعلاء عليه بالدين وينادى بتوحيد الفتوى قسراً، ولا يعتمد على فكرة اتخاذ الدين سبيلاً لطمأنينة القلوب حتى يمارسه كل إنسان على نفسه حيث شاء وفقاً لقناعته ما لم تتعارض مع حقوق الآخرين، وبما يسمح بالتعددية الدينية والفقهية التى تحقق معنى الحرية والتوحيد الصحيح. وعندما قامت ثورة 30 يونيو 2013 لاسترداد ثورة 25 يناير 2011 من مغتصبيها حلفاء الشيطان الأمريكى، وسقط الخائن والداعم - بدأت محاولات المداهنة لإعادة إنتاجهم الكهنوتى والفاشى من جديد على أبنائنا أو أحفادنا فى المستقبل، فهذه طبيعة الشياطين دائمة التحور، الذين حذرنا القرآن الكريم منهم فى قوله سبحانه: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (القلم: 8، 9). وكان من جانب الشيطان الأمريكى فى ذلك ما أوردته جريدة «الوطن» المصرية بتاريخ الأحد 14 سبتمبر 2014 من تصريح «جون كيرى» وزير الخارجية الأمريكية عقب لقائه الرئيس المصرى «عبدالفتاح السيسى»، وجاء نصه أنه «أشار إلى ضرورة الاعتماد على دور الأزهر ودار الإفتاء المصرية فى المواجهة الفكرية للإرهاب»، وتساءلت: ماذا ننتظر من موعظة الشيطان إلا الخراب والدمار؟ وكأن وزير خارجية أمريكا عندما فقد الأمل فى حكم الشعب المصرى بدين الإخوان ومعاونيهم من السلفيين، اتجه إلى الضغط لحكم الشعب المصرى بدين الأزهر ودار الإفتاء المصرية. المهم عند الأمريكان أن يُستعبد الشعب المصرى بجهة توصف بأنها دينية حتى يتم تذليل هذا الشعب العظيم وتطبيعه على مبدأ السمع والطاعة من شخص أو جهة تمنح نفسها صفة الوكالة عن الله، وأنها المرجعية للصواب المطلق والخطأ المطلق، وبهذا يتم تسهيل مهمة الشيطان الأمريكى فى متابعة تلك الجهة لتحقيق مراده باسم الدين. لقد فات الشيطان الأمريكى عراقة الأزهر وأصالته وبراءته منذ نشأته سنة 970، وأنه سيظل كالأب الحنون على أولاده فى صغرهم يعلمهم كل ما يمكن تعليمه مما يحتاج إليه الإنسان فى حياته وبعد مماته دون التعصب لمذهب معين أو مدرسة بعينها، حتى إذا ما بلغ الأبناء استقلوا، وتحمل كل واحد منهم مسئولية نفسه؛ لأنه تربى على السيادة، وعرف أنه سيلقى الله وحده دون مرشد أو وصى، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} (الأنعام: 94)، وقوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (مريم: 95)، فكيف بأزهر رشيد شريف وصف نفسه فى دستور مصر الجديد بأنه هيئة علمية يتحول إلى هيئة دينية كهنوتية بالكذب على الله؟! ماذا يريد وزير خارجية أمريكا من مصر؟ فليرحل بنصائحه الشيطانية وليترك المصريين أسياداً كما أخرج ابن عدى فى «الكامل» بإسناد حسن أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: «كل بنى آدم سيد»، وكما قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ} (البقرة: 256). وإذا كان وزير خارجية أمريكا يرى أن صلاح مصر فى مواجهة الفكر الإرهابى من وجهة نظره لن يتم إلا بالاعتماد على دور الأزهر ودار الإفتاء المصرية من دون باقى مؤسسات المجتمع المدنى المصرى وشعبه - فهل اتبعت أمريكا هذه النصيحة الشيطانية فى داخل بلادها فى أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001؟ وأين دور كنيسة أمريكا ورجال كهنوتها فى مواجهة الفكر الإرهابى؟ وصدق الله حيث يقول: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف: 2، 3)، وصدق الله فى قوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44)؟ أم أن المقصود هو الزج بالأزهر فى مواجهة مع المصريين ليتحول الصراع من الإخوان الخونة إلى الأزهر الشريف؟ بقى سؤال إلى وزير خارجية أمريكا ومن يقتنع بقوله الشيطانى، وهو: ما تجربة دول العالم المتحضر فى مواجهة الإرهاب واستقرار الأوضاع وإقامة العدالة وازدهار الاقتصاد؟ وبتعبير آخر: كيف استطاعت الصين شعب المليار ونصف المليار مواطن، واستطاعت الهند شعب المائة ديانة، واستطاعت أوروبا شعوب العشرات من اللغات، واستطاعت أمريكا شعب الأكثر من خمسين ولاية - أن تكون دولاً نووية اقتصادية آمنة كبرى؟ هل وصلت إلى ذلك بالحكم الدينى الذى يفرض فيه رجل الدين وجهة نظره على الآخرين بصفتها حكم الله كذباً، أم وصلت إلى ذلك بمنح الكرامة والسيادة لكل مواطن فى اختياره الدينى والفقهى مع التزام الجميع بالقانون الضابط باعتباره معبراً عن الاتفاق المجتمعى، وهو ما أمر الله تعالى به فى قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1)، وقوله: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} (الإسراء: 34)، وما أخرجه البخارى تعليقاً أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: «المسلمون عند شروطهم»؟ أما الدين فسيظل لله تعالى وحقاً لكل بنى آدم دون وصاية أحد على آخر مهما وصف نفسه بالألقاب الدينية، كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ} (الأنفال: 39). ولن يكون الدين فى مصر المحروسة لبشر ولو كان بتوصية أمريكية، التى تستكثر على المصريين أن يكونوا أسياداً مثل شعوب سائر الدول المتحضرة.