إن الخطوة الأولى والأهم فى تجفيف منابع الفساد الإدارى والمالى، هى إعادة تأسيس الجهاز الإدارى للدولة بطريقة حاسمة وثورية تقوم على الفصل بين الموظفين العموميين «مقدمى الخدمة» وبين المواطنين وغيرهم من «طالبى الخدمة»، وذلك بتطبيق نظام «التعهيد». وبذلك تتحول مؤسسات الدولة الخدمية من أجهزة سلطوية تحتكر تقديم الخدمات العامة وتتحكم فى مقدرات المواطنين الذين لا يجد أغلبهم البدائل المناسبة عن الخدمات الحكومية، وهم الغالبية من أبناء الشعب من الفقراء ومحدودى ومتوسطى الدخل، أو الموردين والمستثمرين الذين يبغون التعامل مع الدولة ولا يجدون إلا تلك الأجهزة السلطوية التى تسىء استخدام السلطات الممنوحة لها وتنحرف بها عن المسارات السليمة فى كثير من الأحيان، ليستفيد بعض كبار الموظفين وصغارهم وتضار المصلحة العامة. ونود التأكيد على أن نظام «التعهيد» يختلف تماماً عن «الخصخصة» سيئة السمعة فى مصر، لما شاب برامج خصخصة شركات قطاع الأعمال العام من أخطاء يعود معظمها إلى ممارسات فاسدة ارتكبها مسئولون كبار فى الدولة بما أهدر ثروات وطنية هائلة، ما أدى إلى صدور أحكام قضائية عديدة بإلغاء عقود بيع أغلب الشركات التى تمت خصخصتها وإعادتها إلى الدولة! ويمكن تشغيل وإدارة وحدات الخدمات والمرافق العامة الحكومية بمشاركة الأفراد والكيانات غير الحكومية بطرق ثلاث تنظمها القوانين المصرية، وهى: طريقة الامتياز والالتزام، وفيها يتعهد أحد الأفراد أو الشركات بالقيام على نفقته وتحت مسئوليته بتكليف من الدولة أو أحد الأشخاص المعنوية العامة وطبقاً للشروط التى توضع له، بأداء خدمة عامة للجمهور مقابل التصريح له باستغلال المشروع لمدة محدودة من الزمن لا تزيد على 30 سنة، وحصوله على العائد من الأفراد الذين يستخدمون المرفق. وعقود البوت BOT بتنويعاتها المختلفة، حيث يتم الاتفاق بين الدولة أو أحد الأشخاص المعنوية العامة مع شركة خاصة، سواء كانت أجنبية أو وطنية أو مشتركة «أجنبى ووطنى» بإنشاء أحد المرافق العامة على حسابها، وتشغيل وإدارة المرفق بشروط محددة تحت إشراف الجهة الإدارية، وتحصل الشركة على إيرادات المشروع خلال مدة العقد على أن تنقل ملكية المشروع فى نهاية المدة المتفق عليها، بالحالة التى يمكن معها الاستمرار فى تشغيله بالكفاءة التى كان عليها وقت أن كانت الشركة تتولى إدارته، ومثال ذلك مشروع مطار مرسى علم. أما الطريقة الثالثة فهى عقود المشاركة مع القطاع الخاص التى ينظمها القانون 67 لسنة 2010 ولائحته التنفيذية، ولا تقل قيمة هذا النوع من العقود عن مائة مليون جنيه، بمقتضاه تعهد إحدى الجهات الإدارية إلى «شركة المشروع» (يجب أن تكون شركة مساهمة) بتمويل وإنشاء وتجهيز مشروعات البنية الأساسية والمرافق العامة وإتاحة خدماتها، أو تمويل وتطوير أحد المرافق مع الالتزام بالصيانة وتقديم الخدمات للجمهور. إن المؤسسات الخدمية العامة التى يتم تطبيق نظام التعهيد عليها لا تخرج من الملكية العامة، إنما تتحول إلى كيانات لتقديم الخدمات العامة بناء على تعاقدات، حيث تعرض الدولة تلك المؤسسات (مستشفيات، مدارس، وسائل نقل) على المتخصصين من شركات القطاع الخاص والقطاعين العام والأهلى، ليقدموا عروضهم لتولى تشغيل وإدارة وتطوير تلك المؤسسات المملوكة للدولة، لقاء عائد يُنص عليه فى عقد «التعهيد»، كما يُنص فى العقد على مواصفات تقديم الخدمات ومستويات الجودة وشروط الحصول عليها والأسعار الذى يحق للمتعهد تقاضيها. وأبرز الأمثلة الناجحة لهذا الأسلوب فى مصر الفنادق المملوكة للدولة، حيث تتولى تشغيلها وإدارتها وتطويرها شركات عالمية بناء على عقود تؤمن للدولة حقوقها وتضمن للمشغلين حقوقهم. إن أهم مميزات نقل تقديم الخدمات الحكومية إلى القطاع الخاص والقطاعات غير الحكومية بدلاً من الأجهزة الحكومية، تفرغ الأجهزة الحكومية المختصة لممارسة وظائفها الرئيسية فى تخطيط الخدمات وتطوير معايير تقديمها وإحكام الإشراف والرقابة وتقييم الأداء على مقدمى الخدمات من القطاعات غير الحكومية، للتخفيف من الأعباء المالية للدولة بتقليص الإنفاق الحكومى. كما تحصل الدولة من مقدمى الخدمة من القطاع الخاص على مقابل استخدامهم للمنشآت والتجهيزات المستخدمة فى تقديمهم الخدمات، فضلاً عما يضيفونه من تجهيزات وتطوير فى المنشآت وتقنيات العمل بحسب العقود الموقعة مع الدولة، وهم فى جميع الأحوال ملتزمون بسداد الضرائب على ما يحققونه من أرباح وفق النظم الضريبية السائدة. كذلك تتخفف الدولة من أعباء التمويل التى قد تتحملها شركات التعهيد المتعاقدة، لتقديم الخدمات الحكومية فى حالات التعاقد بنظم الإنشاء والتشغيل، ثم نقل المشروعات بعد انتهاء مدة العقد إلى الدولة. ومن أبرز المزايا -وفى ذات الوقت هى من أبرز المعوقات التى تحققها عقود التعهيد- تخفُّف الجهاز الحكومى من أعداد ضخمة من العاملين الذين يمثلون درجة واضحة من «البطالة المقنعة»، حيث يُنقل العاملون ذوو الكفاءة والقدرة وبالأعداد المناسبة للتشغيل الاقتصادى إلى الشركات المتعاقدة، ويكون على الدولة فى إطار مشروع إعادة التصميم المؤسسى للجهاز الإدارى للدولة أن تضع خطة واضحة وشفافة وصريحة لتقليص أعداد العاملين بهذا الجهاز إلى الأعداد المناسبة لحجم العمل؛ من أنشطة التخطيط والدراسات والمتابعة، ووضع المعايير للرقابة والتقييم على كل أنشطة الدولة سواء الذاتية أو المتعاقد على تنفيذها مع كيانات غير حكومية، وإحالة العمالة غير المطلوبة إلى نظام «سخى» للمعاش المبكر، وتشجيعهم على بدء مشروعات صغيرة ومتوسطة بعد توفير إمكانيات التدريب الحديث والفعال المناسبة. وسوف نعرض فى مقالنا المقبل بقية متطلبات القضاء على الفساد فى كافة صوره ومصادره.