«كل نفس ذائقة الموت» المار أمام «دكانه» لا يجد ما يلفت النظر إليه، لكن نظرة متفحصة تكشفه، فالآيات القرآنية مختارة بعناية تحمل تفاصيل مهنته، والدولاب الزجاجى الذى يحمل أقمشة بيضاء يؤدى دون شك إلى لافتة صغيرة فى زاوية غير واضحة تحمل اسم المحل «حانوتى الأزهر». كثيرون يمرون أمامه كل يوم منهم من يسحب كرسيا من مقهى مجاور ليجلس فى الجوار، ومنهم من يمشى على عجالة من أمره حتى لا يمر من أمامه فيصيبه النحس والتشاؤم، ومنهم من يرى أن الصباح لن يحمل له الخير دون أن يمر عليه ويلقى السلام.. «أحمد جمجمة» قدره أن يكون أبوه عاملا فى دكان «الحاج كامل الحانوتى» ليشب الصغير بين رائحة الموت ولون الكفن الأبيض. «اسعى يا عبد وأنا اسعى معاك»، مقولة لا يؤمن بها كثيرا فى عمله، فجلسته اليومية فى دكانه خلف تلك الستارة ذات اللون المخملى، ينام حينا ويشاهد التليفزيون أحيانا، لا تعبر عن تكاسله ولكنه فى انتظار رفيق عمله «عزرائيل» حتى يتم مهمته، فيبدأ هو فى مهام وظيفته؛ «ساعات الشغل بيبقى كل يوم، وكتير الحالة بتبقى واقفة بس ربنا بيرزق». الدكان القديم الذى تملؤه رائحة المسك لا تغيب عنه رائحة الموت التى تملأ الأرجاء، يحمل ذكريات تعود لسنوات طويلة قد مضت، مائة عام يحملها هذا الحانوت، فقد كان الجد هو «حانوتى الأزهر الرسمى»، معيّن من قبل الجامع الكبير ليخدم طلاب الجامعة متى شاءت أقدارهم، يتذكر «الجمجمة» أحوال الكفن والغسل أيام زمان واختلافها عما أتت به الأقدار، «الخشبة زمان كانت حاجة تانية، الشاب الصغير كانت خشبته ليها طربوش وطقم شيلان أبيض.. أما الشابة فكنا نحطلها طرحة بيضاء وشال بمبى، لكن دلوقتى الخشبة شرعى». يتذكر رجالا قد حملهم على كتفيه ليس لعبا ولا تدليلا ولكنها كانت رحلتهم الأخيرة من الدنيا إلى حياة البرزخ: «أنا غسلت حسن أبوالفتوح رئيس نادى الزمالك والسرجانى باشا وحسن درة بتاع شركات درة وناس كتير تانية بس التراب مالوش كبير». يوم لم ينسَ تفاصيله وأحداث لا تفارق مخيلته، يوم 1/2/2012 حيث حدثت مذبحة بورسعيد وشهداء الألتراس: «اليوم ده أنا كرهت شغلتى، اللى ماتوا كانوا أد عيالى»، يتذكر هؤلاء الأربعة الذين شاء قدره أن يغسلهم ويكفنهم فى مشرحة زينهم: «كانوا شباب زى الورد عيال عندهم 17 سنة، تحسبيهم نايمين والضحكة على شفايفهم»! يتذكر ذلك النور الذى برق من وجوههم أثناء «الغسل» فتدمع عيناه، «كان مقصود إنهم يتقتلوا ولو عاشوا يعيشوا عجزة».