هناك جدل كبير حول مدى فعالية وجدوى الصواريخ التى تطلقها فصائل المقاومة الفلسطينية فى غزة منذ نحو عشر سنوات على المستوطنات الإسرائيلية؛ فالبعض يراها أقرب إلى لعب الأطفال وأنها لا تحدث تدميراً يُذكر، ومع هذا تكلف المقاومة وتكلف الشعب الفلسطينى ثمناً باهظاً، حيث تعطى مبرراً لإسرائيل للقيام باجتياح غزة ومحاولة سحق المقاومة، بل وتؤدى إلى استعداء الرأى العام العالمى على الفلسطينيين، وتقلل التعاطف الدولى معهم، وتجعل الغرب متفهماً -كالعادة- لاحتياج إسرائيل إلى الدفاع عن نفسها وعن شعبها (بشرط واحد فقط يتسامح فيه دائماً، وهو عدم استخدام القوة المفرطة!). وبناءً على هذا التصور تركزت جهود الوساطة المصرية بين الفلسطينيين والإسرائيليين على محاولة إقناع الفلسطينيين بالكف عن إطلاق الصواريخ وتهدئة الأوضاع مع إسرائيل لتهيئة الأجواء لمباحثات السلام وإقامة الدولة الفلسطينية. وهناك رأى آخر مفاده أن الصواريخ الفلسطينية هى الآن من أهم الأسلحة التى تمتلكها المقاومة وترهب بها إسرائيل، وحتى لو كانت بدائية أو ضعيفة التأثير إلا أنها هى السلاح المتاح لديهم وعليهم الاستفادة منه، وأن إسرائيل لا تحتاج لمسألة الصواريخ لتمارس عدوانها على الفلسطينيين، إذ إنها مارسته فى «دير ياسين»، ومارسته فى «صابرا وشاتيلا»، ومارسته فى «جِنين»، ومارسته فى الضفة حين حاصرت «عرفات» ورفاقه، ومارسته على مدى خمسين عاماً بكل وحشية وبربرية قبل انطلاق أى صاروخ. إذن فالعدوان الإسرائيلى ليس موقوفاً على وجود الصواريخ، وإنما هو موقوف على كسر إرادة المقاومة أياً كانت أشكالها، وعلى محاولة إبادة الوجود الفلسطينى حتى يعيش المحتل الإسرائيلى فى سلام، فإسرائيل تعرف جيداً أن كل التجارب الاستعمارية فشلت فى الاستمرار، وكان الأمر ينتهى بانتصار المقاومة على مدى التاريخ، ما عدا نموذجاً واحداً هو نموذج احتلال الأوروبيين للقارة الأمريكية ونجاحهم فى إبادة الهنود الحمر، ولهذا فهى تقوم بجهود إبادة تدريجية منظمة للوصول إلى نفس النتيجة، خاصة أنها ترتكز على معتقدات دينية تتبدى فى سفر «يشوع» الذى ترد فيه عمليات الإبادة للفلسطينيين بشكل متكرر ولافت للنظر، حيث كان «يشوع» يدخل أى مدينة فلسطينية فيقتل من فيها عن آخرهم ثم يأمر بحرق ما يتبقى من آثارهم. ولأن العرب قوم لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يتذكرون (كما قال موشى ديان وغيره)، فإنهم لم يقرأوا هذا السفر الخطير فى تراث الإسرائيليين، الذى يشكل وعيهم السياسى والعسكرى، ومن هنا لا يفهم العرب لماذا يتصرف الإسرائيليون هكذا. ولنحاول الآن أن نرى مدى فعالية وجدوى تلك الصواريخ بعد مضى أكثر من 10 سنوات على إطلاق أول صاروخ فلسطينى تجاه إسرائيل: فقد ورد فى تقرير إسرائيلى أن «الصواريخ الفلسطينية رغم أنها بدائية وغالبيتها الساحقة لا تلحق أى أذى بإسرائيل، فإنها تعتبر خطيرة جداً، وأثرت على حياة 190 ألف إسرائيلى، وهجَّرت 3000 شخص من بلدة سيدروت خصوصاً، لكن التقرير يشير أيضاً إلى أن الأضرار التى لحقت بالفلسطينيين حتى الآن أكبر بكثير مما ألحقته بالإسرائيليين، إن كان ذلك من ناحية عدد القتلى والجرحى أو من ناحية الأضرار السياسية والعسكرية والمادية» (جريدة الشرق الأوسط، 14 ديسمبر 2007). وفى أعراف المقاومة -أى مقاومة- على مدار التاريخ، فإن خسائرها المادية غالباً ما تكون أكبر من خسائر المحتل الغاصب، ولكن استمرارها فى تهديد أمن واستقرار ذلك المحتل هو الهدف المطلوب، ولولاه ما ترك أى محتل بلداً قام باحتلاله، وهذه هى النقطة المحورية فى سيكولوجية مقاومة أى محتل؛ أن تقلق راحته وتهدد أمنه وتمنع استقراره وتوصل إليه رسالة متكررة ودائمة بأن استمراره فى الاحتلال له ثمن باهظ لن يقدر عليه، عندئذ فقط يبدأ فى التفكير جدياً فى المفاوضات لإنهاء الاحتلال. ولو نظرنا إلى آثار الصواريخ الفلسطينية من هذا المنظور نجد أنها تحقق ذلك الهدف على الرغم من بدائيتها وضعف أثرها التدميرى، بل ربما يكون ضعفها مطلوباً (مثل الحجارة التى كان يلقيها الأطفال إبان الانتفاضة)، فالهدف هنا ليس قتل أعداد كبيرة أو تدمير البنية التحتية لإسرائيل (فذلك قد يستفز عدواناً هائلاً لا تقدر عليه المقاومة)، ولكن الهدف هو إحداث حالة مستمرة من انعدام الأمان لدى المواطن الإسرائيلى، بحيث يجعله هذا الوضع يراجع مسألة الاستيطان ويعرف أن حياته وحياة أبنائه غير آمنة فى وجود الاحتلال، وتظل القضية نشطة وساخنة فلا يتحول الموضوع إلى أمر واقع على الأرض يترسخ مع الزمن. وقد تُستخدم الصواريخ الفلسطينية لإحداث نوع من الارتباط الشَّرطى، فمثلاً حين تقتل إسرائيل أحمد ياسين أو عبدالعزيز الرنتيسى ترد المقاومة بالصواريخ بعدها مباشرة، فيحدث نوع من توازن الألم لدى الطرفين، وتحسب إسرائيل ألف حساب قبل إقدامها على إيذاء الفلسطينيين حيث تتوقع إيذاءً مقابلاً، حتى ولو كان هذا الإيذاء معنوياً فى صورة خوف يجتاح ساكنى المستوطنات. وهذا الارتباط الشرطى بين عدوان إسرائيل وإيذائها بالصواريخ هو فكرة قام حزب الله بتنفيذها، وكان يسميها «سد الذرائع»، بمعنى أن إسرائيل تعرف أن عدوانها سيكون مدفوع الثمن، لذلك تفكر ألف مرة قبل أن تمارسه، وقد أدى هذا إلى انسحابها دون شروط من جنوبلبنان، نظراً لما لاقته من ردع صاروخى بالكاتيوشا اللبنانية. وفى أحيان أخرى يكون للصواريخ فائدة فى رفع الروح المعنوية لدى الفلسطينيين من خلال شعورهم بامتلاك سلاح يمكن إطلاقه فى أى لحظة، ولا يحتاج لإعدادات طويلة أو معقدة كما كان الحال فى العمليات الاستشهادية. وثمة علاقة بين الصواريخ والعمليات الاستشهادية فى أن كلاً منهما يهدف إلى إحداث حالة من القلق والخوف لدى الطرف الآخر على الرغم من قلة الخسائر المادية، فالأثر المطلوب هنا أثر نفسى فى المقام الأول، إذ لا يُعقل أن الفلسطينيين سيواجهون الآلة العسكرية الإسرائيلية بهذه الصواريخ البسيطة، ولكنهم يواجهون النفسية الإسرائيلية التى بطبيعتها تعيش الهاجس الأمنى فى كل لحظة، بل إن الشعور بانعدام الأمان شىء أساس فى الشخصية الإسرائيلية، بسبب ظروف تاريخية عميقة الجذور جعلت اليهود يعيشون تاريخهم مصحوباً بحالة من عدم الأمان، وكانوا يحاولون التجمع فى حارات أو تجمعات يهودية بحثاً عن الأمان المفقود فى المجتمعات التى كانوا فيها، إذن فالصواريخ ومن قبلها العمليات الاستشهادية تلعب على هذا الوتر النفسى المؤثر والحساس لدى الشخصية الإسرائيلية، ومن هنا نلحظ أن إطلاق الصواريخ يتم على فترات زمنية متفرقة وغير منتظمة، وتطلق بأعداد ليست كبيرة، وفى أماكن متفرقة، كى يشعر المستوطن الإسرائيلى أن ثمة خطراً يلاحقه لا يعرف له زماناً أو مكاناً، ولكنه مقبل مقبل. والمقاومة الفلسطينية محاصرة من إسرائيل ومحاصرة من العرب ومحاصرة من العالم كله، وفى هذه الظروف الصعبة عليها أن تواصل كفاحها الشريف والمشروع (طبقاً لكل الأعراف والقوانين الدولية) من أجل التحرر، لذلك فهى تبحث عن أية وسيلة تمكنها من كسر ذلك الحصار ومن كسر غطرسة العدو المتجبر والمتسلح بأحدث أنواع الأسلحة، وهذا يعطيها حقاً مشروعاً للدفاع عن نفسها وللبحث عن طرق حريتها واستقلالها مهما كلفها ذلك من خسائر. ولا توجد وسيلة مقاومة يرضى عنها المحتل أو يتسامح معها كما يظن المهزومون نفسياً، كما أن المقاومة تؤمن بالآية الكريمة: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ}، أى أن إعداد المستطاع من القوة هو المطلوب لتحقيق النصر، وأن هذا الإعداد كفيل بتحقيق الرعب لدى العدو الظاهر والأعداء المختبئين هنا وهناك. وفى وقت من الأوقات كانت العمليات الاستشهادية تشكل سبباً للهلع لدى الإسرائيليين، حيث اقتحمت عليهم عقر دارهم فى الحافلات والمسارح والأسواق، وها هى الآن الصواريخ البدائية البسيطة تحقق هذا الرعب للمستوطن المحتل أينما حل. والصواريخ ليست فقط لدى «حماس» وإنما لدى كل الفصائل الفلسطينية، ف«حماس» صنعت محلياً صاروخ «القسام» ووصل مدى «القسام» 3 إلى عشرة كيلومترات، أما المقاومة الشعبية فقد صنعت صاروخاً أطلقت عليه «ناصر» ومداه تسعة كيلومترات، و«كتائب الأقصى» التابعة لحركة فتح صنعت صاروخين أحدهما «الأقصى» والآخر «الياسر»، ومداهما نحو خمسة عشر كيلومتراً، و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» صنعت صاروخاً سمته «الصمود»، ومداه سبعة كيلومترات. والملاحظ أن هذه الصواريخ يتم تصنيعها داخل الأراضى الفلسطينية من مواد بسيطة عبارة عن مبيدات زراعية وسكر ومواد كيميائية متوافرة محلياً، ويتم التصنيع فى ورش الحدادة على أيدى أشخاص مدربين، وهذه الورش منتشرة فى كل مكان وسط الأحياء السكنية وتحت الأرض، ويتم تطوير الصواريخ بشكل سريع نسبياً، حيث كان أقصى مدى للصواريخ الأولى نحو ثلاثة كيلومترات، والآن وصلت إلى 160 كيلومتراً وستزيد فى المستقبل. وأخطر أنواع الصواريخ المملوكة للمقاومة حالياً هو نوع «جراد»، وهو صاروخ روسى الصنع يتم تهريبه إلى غزة من الخارج، ومداه من عشرين إلى ستين كيلومتراً أى أنه يصل إلى الكثير من المدن الإسرائيلية، وبه إمكانات التصويب الدقيقة لإصابة الهدف، وتحتفظ به المقاومة لأوقات الشدة حين تريد أن ترسل رسالة قاسية إلى إسرائيل. إذن فإسرائيل على الرغم من امتلاكها لترسانة عسكرية ضخمة، فإن لديها نقاط ضعف خطيرة تستغلها المقاومة التى لا تمتلك إلا أسلحة بدائية، وهذه فكرة «ضعف القوة وقوة الضعف» التى تستند إليها كل قوى المقاومة عبر التاريخ، فالمقاومة تمتلك سلاح الاستشهاديين الذى أزعج المحتلين وأقض مضاجعهم، وتمتلك الآن سلاح الصواريخ الذى يمكنها من ضرب الكثير من المواقع والمستوطنات فى أى لحظة، ومهما فعلت إسرائيل ومهما قامت به من مجازر فلن تستطيع إيقاف هذين السلاحين، والنتيجة هى الوصول إلى حالة من توازن الرعب بين الطرفين، ومن يصمد أكثر سيكسب المعركة. والمتوقع أن تصمد المقاومة حيث لا توجد لديها خيارات أخرى، خاصة بعد فشل كل محاولات الحل السلمى، وبعد التأكد من مراوغات إسرائيل وسعيها ونجاحها فى شق الصف الفلسطينى تحت ذريعة عملية السلام والمفاوضات التى استقطبت من خلالها بعض فصائل الفلسطينيين وحرضتهم واستخدمتهم ضد الفصائل المقاومة. ولقد أدى القصف الصاروخى الفلسطينى خلال السنوات الماضية إلى مقتل عشرات الإسرائيليين كلهم من المدنيين، وهذا ربما يسبب مشكلة للمقاومة الفلسطينية، حيث تستغل إسرائيل هذا الأمر فى جذب التعاطف الغربى (المتوافر أصلاً) نحوها وقبول الغرب (أو تفهمه) لعملياتها الانتقامية التى تتبع إطلاق الصواريخ. وعلى الجانب الفلسطينى يوجد اعتقاد له وجاهته وهو أن المجتمع الإسرائيلى مجتمع معسكَر أساساً وأغلبه يعتبر جنود احتياط، إضافة إلى أن هؤلاء محتلون وليسوا مدنيين عاديين، إضافة إلى يأس الفلسطينيين من موضوع التعاطف الغربى أو عدمه، فالغرب دائماً مع إسرائيل سواءً كانت هى المعتدَى عليها أم المعتدية. وأكبر خطر تخشاه إسرائيل الآن هو وصول الصواريخ إلى الضفة الغربية واستخدامها من هناك، حيث ستصبح مجموعة كبيرة من البلدات والمدن الكبرى مثل القدس وكفار سابا وبيتح تكفا وغيرها فى مرمى الصواريخ، وعندئذ سيكون عدد القتلى والجرحى كبيراً لدرجة لا يمكن لإسرائيل أن تحتملها، ولذلك تحرص إسرائيل على استقطاب السلطة الفلسطينية المسيطرة على الضفة، لكى تضمن عدم وصول الصواريخ إليها، ومع هذا فالمحاولات مستمرة من جانب المقاومة للوصول بالصواريخ إلى الضفة الغربية، ولو نجحت فسيشكل هذا تغيراً نوعياً فى موازين الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، وتصبح إسرائيل فى مأزق على الرغم من امتلاكها لترسانة هائلة من الأسلحة بما فيها السلاح النووى، ولذلك فإنها تعمل بكل ما أوتيت من قوة لمنعها، وقد نجحت بالفعل بعض المحاولات لتهريب الصواريخ أو تصنيعها فى الضفة الغربية، ولكن وجود السلطة وتعاونها مع إسرائيل كان يحبط تلك المحاولات فى مهدها. وفى هذه الأيام حيث تحاول إسرائيل حرق غزة بمن فيها وسط صمت وتواطؤ العالم كله بما فيه العرب (على الأقل على المستوى الرسمى)، فإن الخانعين يهاجمون المقاومة ويدَّعون أنها رفضت التهدئة وعرضت نفسها وعرضت الفلسطينيين للغضب الإسرائيلى الجارف وتسببت فى قتل أعداد كبيرة من المدنيين فيما يشبه عملية انتحار عسكرى، وهؤلاء هم الطابور الخامس الذى يتسلل إلينا عبر المواقع الرسمية والقنوات الفضائية والصحف والمجلات والمنابر الثقافية، ويحاولون إضعاف الروح المعنوية للفلسطينيين والعرب، ويظهرون المقاومة فى صورة المتهور الذى لم يحسب للأمر حسابه، والحقيقة أن أى مقاومة للاحتلال لا تسعى أبداً للتهدئة، إذ التهدئة معناها ترسيخ الأمر الواقع، وإعطاء الفرصة للعدو كى تستقر حياته ويستجلب المزيد من المستوطنين اليهود من كل مكان فى العالم وهو يعدهم بجنة إسرائيل، والمقاومة لن تصل فى يوم من الأيام إلى توازن القوى مع إسرائيل، والمقاومة تدرك جيداً حجم الخسائر الذى يمكن أن تتعرض له، ولكن هذه الخسائر هى ضرورة ملحة وفاتورة واجبة الدفع للتحرر، إذ لم يتحرر وطن من خلال التهدئة، أو التوسل، أو التسول، أو الاستعطاف، أو الاستسلام، أو الرضا بالأمر الواقع، ولم يترك محتل أرضاً طواعية، وإنما تركها حين أدرك أن ثمن وجوده باهظ. وفى كل خبرات التحرر الوطنى كانت المقاومة تدفع ثمناً باهظاً وكانت دائماً فى وضع أضعف من المحتل، ولكن قوانين المقاومة تتجه نحو استغلال نقاط الضعف لدى المحتل القوى، واستغلال نقاط القوة لدى المقاومة الأضعف من المحتل، وهنا يتحول ميزان القوى فى صالح المقاومة رغم قوة المحتل.