خلال انعقاد لجنة الخمسين لكتابة مشروع دستور 2014، احتدم النقاش حول بقاء مجلس الشورى أو إلغاؤه. ورغم جهود عدد من الأعضاء الذين طالبوا ببقاء المجلس تحت اسم «مجلس الشيوخ» ويكون مجلس خبرات لا مجلس نفاق ومراضاة، فإن الأغلبية قررت إلغاءه، نظراً لسوء سمعة هذا المجلس لديهم ولدى أغلبية الشعب. كنت مع الرأى الذى يرى بقاء هذا المجلس «مجلس الشيوخ» ليكون مجلساً يجمع المفكرين والعلماء بشتى مناحيهم. ويكون أغلب أعضاؤه مختارين بعناية ليمثلوا عقل وعلم وخبرات الدولة. صحيح لدينا عدد من مراكز الدراسات الحكومية والمدنية، لكنها قليلة ومشتتة. مجلس الشيوخ يجمع الأفكار والأطروحات المتنوعة ليضع الرؤى العريضة وتفريعاتها لتقدم الوطن وحمايته. وتقدم الوطن يحوى بنداً غاية فى الأهمية، وهو بند الخطط المضادة لخطط دهاة الغرب الذين يخططون لعرقلة تقدم مصر والمنطقة. ما أعادنى لهذا الموضوع الذى أراه مهماً، أى عودة «مجلس الشيوخ»، ما تأكدنا منه تماماً، ولا نحتاج لمزيد من الأدلة لنتأكد أكثر، وهو ما يتضح ويتجسد حالياً من وقائع التقسيم والتفتيت للمنطقة تحت دعوى «الفوضى الخلاقة» وشعار «الشرق الأوسط الجديد» بعدما استنفدت تقاسيم «سايكس بيكو» أغراضها. وفى جريدة الوطن بتاريخ 13/7/2014، أشار لهذا الموضوع الأستاذ عماد الدين أديب فى مقال («أوباما» قرش البحر!) كما أشار من قبل. والأستاذة نشوى الحوفى كتبتْ فى نفس العدد مقال (الأكراد.. حماس.. والخطر الصهيونى المقبل) كما كتبت من قبل. وغيرهما كتبوا كثيراً وقالوا فى وسائل الإعلام كثيراً. كلهم، ولهم كل الحق، يحذرون من وقائع بعثرة الشرق الأوسط الجديد الذى يحاصرنا ويخنقنا، ونحن لا نملك سوى الانتفاض عصبياً وعاطفياً ضد هذه المؤامرات فى ردود فعل ساذجة، مثل الذى سقط فى دوامة الرمال المتحركة، وكلما انتفض عشوائياً أخذته الرمال لأسفل ليغرق أكثر وأكثر. ردود أفعالنا فى غالباها، وإن بدت ظاهرياً كمقاومة، فهى فى الحقيقة تعضد مؤامرة التقسيم الجديدة. فنحن، أى مصر وما حولها، لم نضع خطة دفاع فضلاً عن خطة هجوم ضد تلك المؤامرة بالغة الخطورة، التى حيكت ويتم تنفيذها بنجاح، حتى وإن وقفت ضدها مصر شعباً وجيشاً وقفة وطنية حماسية هائلة، فمصر حتى الآن لم تقف أمامها عقلاً وتدبيراً. وهذا ما كتبه د. معتز بالله عبدالفتاح فى نفس عدد «الوطن» المذكور عاليه فى مقاله (عاجل إلى المخابرات: تحركوا قبل أن نداس بالأقدام)، يشير سيادته لمقال شهير لرالف بيتيرز «Ralph Peters» الذى اقترح فيه خريطة جديدة للمشرق العربى. ويحذر من تلك المؤامرة، ويبين أننا لم نفعل ما يتوجب علينا فعله ضد هذه المؤامرة، ويقول د. معتز فى مقاله: «المعضلة التى أمامنا أننا نقع فى الفخاخ بسذاجة استثنائية. ولا أعرف إن كان لدينا تصور واضح بشأن ما المصلحة العليا المصرية - العربية فى كل ما يحدث». ليس لدينا تصور واضح يا دكتور معتز بالله. ولذلك أدعو لعودة مجلس الشيوخ سريعاً ليكون مجمعاً للفكر والتحليل والبحوث المقاومة، ومصدر وضع رؤى التقدم، وتدبير الخطط المضادة لمؤامرات الغرب الكبرى وربيبته إسرائيل. هجوم النظريات التآمرية يكون بدفاع وهجوم بالنظريات المضادة، لا بالوطنيات الزاعقة «التى ما قتلت ذبابة». الوطنيات تنجح إن كانت شلالات كاسحة تم التخطيط لمجراها، أما الشلالات الكاسحة التى تنطلق فى غشاوات ومتاهات، فمصيرها الإهدار والانكسار، ثم حصد الفشل واليأس، وبث التطرف القومى والوطنى والدينى، التى تضر الشعوب ولا تضر أصحاب المؤامرات الخارجية وخططهم، أم سنتناسى تطرف الثورات العسكرية فى الخمسينات وما بعدها، والتى قامت لطرد الاستعمار وقررت تغييب العقل والحكمة، وأبعدت الديمقراطية وجنَّبت الخبرات واعتقلت العقول وخنقت الشعوب، فصارت ثوراتها هباء ووباء على الأوطان، وفعلت فى شعوبها أفاعيل إجرامية لم تفعلها فيها جيوش الاحتلال، وآخر تلك النماذج ما حدث ويحدث فى سوريا الأسدين، وما حدث ويحدث فى ليبيا القذافى. تحولت تلك الثورات لتكون، دون أن تعى، عوناً للمؤامرات الخارجية التى سعدت بها، ولا تحاربها إلا إذا قررت الضرر بمصالح الاستعمار. وبكل أسف تحولت خيبة تلك الثورات القومية والوطنية لتكون بعثاً ووقوداً لإرهاب ودموية القاعدة والجهاديين وتجار الدين وغيرهم؟! أعود لمقال د. معتز بالله الذى يقول: «الاستخباراتيون العرب يعرفون أفضل منى هذا المصطلح: العمليات النفسية أو Psychological operations التى تهدف إلى تحريض الجماعات المستهدفة لاتخاذ سلوك معين يتعارض مع مصالحها باستغلال أخطاء الحكام، وجهل الشعوب، والعملاء الانتهازيين». فى نفس العدد من جريدة الوطن، الذى كتب فيه د. معتز والأستاذ أديب والأستاذة نشوى، كتبت مقالى («الاستنواب» يقسم النوبة لأشلاء) أبيّن فيه خطورة قرار تقسيم النوبة لمحافظات، فقرار التقسيم قرار مُهين، قرار خاطئ من الحكام سيدفع النوبيين دفعاً للمقاومة والاشتباك مع السلطة، وأنهيت مقالى بجملة «النوبة لن ترضى بالهوان». إن كان فى وطننا مجلس شيوخ يفكر ويرفع تقاريره الحكيمة للحكام، والحكام يحترمون البحوث العلمية واستنتاجات المفكرين، ما اتخذت الحكومة قرار تقسيم النوبة الذى تم خوفاً من مؤامرات الغرب، فبدلاً من هذا القرار الخاطئ، كان مجلس الشيوخ سيتعامل عقلياً وواقعياً بمعرفته العميقة بأهمية النوبة وحقوق النوبيين، فيعمل على منح الحقوق الوطنية للمواطنين المصريين النوبيين، وفى نفس الوقت يعمق الوطنية المصرية الشاملة، ويضع الحصون المانعة لأى تسرب خبيث يحفر لانفصال لا ترضاه النوبة المصرية. هكذا يكون العقل ويقول.