لأول مرة -منذ ستين عاماً- تتخذ مصر قراراً اقتصادياً مستقلاً، تمليه عليها الإرادة الحرة لشعب قرر بعد ثورتين أن يكون سيد نفسه، وأن يثور لا على نظام حكم تابع ومطيع، وإنما على قوى ومنظمات دولية كصندوق النقد والبنك الدوليين، كانت تملى على هذا النظام سياساته الاقتصادية، وتُوجِّه بالأمر المباشر إلى قرارات لا مفر من قبولها والانصياع لها، بغض النظر عن تعارضها مع المصالح الوطنية، وهى بالقطع متعارضة ومُذِّلة! لو لم تكن قرارات رفع أسعار الوقود، رغم مرارتها وقسوتها، لا تتمتع إلا بهذه الميزة وهو صدورها لأول مرة بمعزل عن شروط الدائنين الدوليين وسدنة النظام الاقتصادى العالمى المهيمن، لكفانا ذلك شرطاً لقبولها وتجرع دوائها والصبر على مرارتها! وتاريخنا الاقتصادى الحديث لا يخلو من ضغوط دولية بعضها قبلته حكومات مشكوك فى وطنيتها، وبعضها رفضته حكومات لا يرقى إلى وطنيتها شك، بدءاً من تفتيش «صندوق الدين» على مالية مصر فى عهد الخديو إسماعيل، إلى شروط البنك الدولى المجحفة لتمويل السد العالى فى خمسينات القرن الماضى، إلى «وصفات» نادى باريس وصندوق النقد الدولى للإصلاح الاقتصادى، «ومزاد» الخصخصة وصفقات بيع القطاع العام لكل المغامرين المحليين والدوليين بالثمن البخس! وانتهاءً بالقبول المُذِّل لمحمد مرسى وحكومة الإخوان لقرض صندوق النقد الدولى الذى تداركته ثورة 30 يونيو قبل أن «يُقيد» ديناً على الأجيال المقبلة. فى التسعينات من القرن الماضى والاستقطاب الاجتماعى يتبلور بين نقيضين متنافرين؛ غنى فاحش معربد، وفقر مدقع مُذل، كانت «تفاهمات واشنطن» وتعليمات صندوق النقد الدولى وإملاءاته بالتكيف الهيكلى وخصخصة القطاع العام فى صفقة تشبه «التبرع» بأصوله للأغنياء، وعزل الدولة عن مسئولياتها الاقتصادية والاجتماعية وتجريدها من أدوات بناء التوازنات الاجتماعية والإنسانية الآخذة فى الانهيار، كان الشغل الشاغل للمنظمات المالية الدولية هو فقط الوصول إلى توازنات نقدية ومالية مستقرة وتقليص عجز الموازنة على حساب التوازنات الاجتماعية والسياسية، وهو ما قاد إلى توسع جيوب الفقر وتزايد التوترات الاجتماعية والسياسية واتساع نطاقها، واختراق حركات الإسلام السياسى لمفاصل المجتمع وانتشار نفوذها فى الأرياف وهوامش المدن والمناطق التى ضربها زلزال الفقر والحاجة. قد تكون قرارات رفع الدعم عن الطاقة خطوة على طريق القضاء على عجز الموازنة المزمن، وتحقيق التوازنات النقدية والمالية، لكنها تظل -فى الأجل الطويل- خطوة غير كافية ومترددة ومهددة بالتوقف، إذا عولت فيها الدولة على الاكتفاء فقط بخفض النفقات الحكومية الموجهة نحو الدعم، وغيره من الأدوات المجردة للسياسة المالية، كزيادة الحصيلة الضريبية وإخضاع المكاسب الرأسمالية للبورصة للضريبة، وإلغاء «الجنات» الضريبية، أى الأنشطة التى ينعم فيها المستثمرون بإعفاءات ضريبية سخية، وإصلاح هيكل الأجور، بإيجاد حدين أدنى وأقصى يتحرك بينهما بندول الأجور، بما يضيق التفاوت من جهة، ويحفظ للأجور تأثيرها كحافز لرفع إنتاجية العمل من جهة أخرى. ليس هذا فحسب، وإنما لا بد أن تساند تلك السياسات أيضاً جهود لتصحيح التوازنات الاقتصادية والاجتماعية، وإعادة بناء الهياكل الإنتاجية وتحديثها، ورفع معدلات النمو الاقتصادى بما يفوق معدلات النمو السكانى. وبالطبع فإن قرارات رفع أسعار الوقود، هى جراحة اجتماعية مؤجلة، تقاعس حكام سابقون عن إجرائها واستمرأوا ترحيلها سنة وراء سنة، واكتفوا بمسكنات الاقتراض الداخلى والخارجى و«وصفات» العطارين والدجالين من حملة المباخر السلطانية الذين يداهنون الحاكم بزعم الحفاظ على «رصيد شعبيته» المتآكل، بينما رصيد الدين العام فى تزايد ينذر بأوخم العواقب، حتى كادت مصر أن تأكل -أو أكلت بالفعل- من «لحمها الحى»! أليس نذير شؤم أن يلتهم الدين العام 95 بالمائة من الناتج المحلى الإجمالى؟! معنى ذلك أننا هجرنا فريضة اسمها الادخار فضلاً عن فرائض غائبة أخرى. ماذا يبقى إذن لتجديد أصول المجتمع وتحديث مصادر الثروة القومية والاستثمار فى الزراعة والصناعة والتعليم والصحة وإعادة ترميم البنية الأساسية وخلق وظائف جديدة لجيوش العاطلين والوافدين الجدد إلى سوق العمل؟ كل ذلك ونحن سادرون فى غى «الدعم» الذى صار «بقرة مقدسة» لا تمس، حتى لو بلغت القرابين المقدمة لها دعماً لأحد مفرداته وهو الطاقة 85 بالمائة من جملة ما تنفقه الحكومة من موازنتها على الدعم، يؤول معظمه إلى الأغنياء. ثلاثة شروط وفرت لهذه القرارات قبولاً واعياً بضروراتها، ونزلت بردات الفعل الشعبية الغاضبة عليها إلى حدها الأدنى، أولها استقلالية قرارات رفع الأسعار عن أى ضغوط دولية وصدورها عن إرادة وطنية حرة. والثانى عدالة توزيع الأعباء المصاحبة لها، وثالث هذه الشروط رئيس قدوة قرر أن يبدأ بنفسه قبل أن يدعو شعبه إلى الامتحان الصعب فتنازل عن نصف أجره ونصف ثروته!. لقد اختارت مصر الطريق الأصعب الذى يقيها هَم الليل ومذلة النهار ويحفظ لها -وهى عزيزة قوم لا تُذل- ماء وجهها ويصون كرامتها، وهو طريق الاعتماد على الذات والترفع عن سؤال القريب والغريب، وتقاسم «المغانم» دعماً ومِنحاً وهباتٍ وتصاريح دخول رسمية إلى عالم الثراء، تارة بالإعفاءات الضريبية والجمركية ودعم الطاقة وتارة بالأرض المقطوعة بالأسعار الرمزية وأذون التصدير والاستيراد والالتحاف سنوات بغطاء السلطة، حتى خبز الفقراء ودقيقهم المدعوم جاروا عليه وأخذت مخبوزاتهم الباريسية نصيب الأسد منه!