مقال مهم ذلك الذى نشره عز الدين شكرى، قبل أسبوع، فى «المصرى اليوم» حول الحروب الثقافية فى مصر. الموضوع معقد، فيما المساحة المتاحة لمعالجته تقتضى تبسيطاً أعتذر عنه مقدماً. أتفق مع الصديق «شكرى» فى أن جوهر الصراع الراهن فى مصر هو صراع بين اتجاهات ثلاثة: ليبرالية وإسلامية ووطنية، وإن كنت أختلف فى تشخيصه وتقييمه لكل من التيارات الثلاثة. «شكرى» يسمى الاتجاهات الثلاثة «ثقافات»، ولكنها فى الحقيقة ثقافة واحدة هى ثقافة الوطنية المصرية، وأيديولوجيتان «ليبرالية» و«إسلامية». فى الثقافة رحابة وتنوع وأسئلة بلا إجابات نهائية مفروضة، ولكن بنهايات مفتوحة متروكة للبشر لكى يتولوا الإجابة عنها كل بطريقته، أما فى الأيديولوجيا فانغلاق وضيق وإجابات صارمة ومحاولة لإجبار الواقع على الدخول فى قمقم الأيديولوجيا المحدود. ربط «شكرى» الثقافة الليبرالية بشباب الخامس والعشرين من يناير مع أن جوهر أفكار القلب النابض لهؤلاء ليس الاعتزاز بالحرية الفردية بقدر ما هو العداء للسلطة -أى سلطة- والفرق بين الأمرين كبير. أفكار شباب يناير فيها الكثير من مزاج يسارى معادٍ للملكية والرأسمال، لكنه يتردد فى التعبير الصريح عن يساريته بعد إخفاق الاشتراكية، فرضى بالليبرالية لما فيها من رحابة مريحة. مزيج العداء للسلطة والرأسمال لا يؤسس تياراً ليبرالياً وإنما يؤسس لتيار هو للفوضوية أقرب. الليبرالية فلسفة ونظرية تؤسس لنظام اجتماعى وسياسى يقيم السلطة على قواعد الدستور والقانون لتعزيز الحرية الفردية وحماية الملكية الخاصة، فيما الفوضوية تأنف من الملكية الفردية وتعادى الرأسمال، وتسعى لهدم سلطة الدولة والتقاليد والعائلة والدين وصاحب العمل، فالسلطة لدى الفوضويين -أياً كان مصدرها- هى عدو الحرية اللدود. الأفكار والأحزاب الليبرالية أسست النظم السياسية الغربية الحديثة، فكانت السلطة فيها محترمة ومقيدة بالقوانين، والملكية الفردية ركناً رئيسياً من أركان النظام الاجتماعى والاقتصادى، فيما الشبان الثوريون عندنا يتبنون أفكاراً أطلقتها حركات للرفض الاجتماعى والسياسى ظهرت على هامش السياسة الغربية مؤخراً. الشبان الثوريون يحاولون وضع أفكار ما زالت هامشية فى مسقط رأسها فى موقع قيادة التطورات السياسية والثقافية والاقتصادية عندنا. حركات الرفض الاجتماعى والسياسى الأوروبية هى التعبير السياسى عن قيم ما بعد الحداثة وما بعد المادية الآخذة فى الانتشار فى مجتمعات نالت من الحداثة والثراء نصيباً وافراً. زرع الأفكار نفسها فى مجتمع ما زال يكافح من أجل تحديث الدولة والمجتمع، ومن أجل إخراج نصف السكان من الفقر المادى المدقع هو نوع من الغرس فى غير الأوان وخارج التربة. ما بعد الحداثة الغربية تعكس تطورات اجتماعية وثقافية واقتصادية فى مجتمعات ناضجة، فيما استزراع الأفكار نفسها خارج بيئتها فيه الكثير من الاصطناع الذى يفرض حدوداً للدور والأثر. يثنى «شكرى» على «الثقافتين» الإسلامية والليبرالية بسبب اتساقهما الداخلى واستقامتهما الفكرية فى مواجهة ثقافة الوطنية المصرية التى تحاول الجمع بين المبدأ ونقيضه، وتعتمد على الممارسة أسلوباً لحل هذه التناقضات. الاستقامة الفكرية والاتساق الداخلى للأيديولوجيات الليبرالية والإسلامية هو من شئون المثقفين الذين ينشغلون بالاتساق الفلسفى أكثر من انشغالهم بالأثر الذى تحدثه فلسفاتهم فى الواقع، وهو أيضاً من خصائص الأيديولوجيات صاحبة النظرة الخطية المبسطة للعالم، أما المجتمع الحقيقى فحياته مركبة وأكثر تعقيداً من أن تشملها أيديولوجيا أو فلسفة محددة، فالحياة والمجتمعات بتنوعها تأبى أن تحتويها أيديولوجيات مستقيمة ومتسقة لدرجة التبسيط، وهذا هو ما يميز ثقافة الوطنية المصرية الرحبة. الاستقامة الفكرية التى يحتفى بها «شكرى» هى بذرة التطرف الذى نشهد مظاهره وآثاره من حولنا. البناء المنطقى الشكلى والتفكير الخطى المميز للأيديولوجيات هو نشاط ذهنى يجرى بمقتضاه مد مبادئ فكرية بسيطة على استقامتها، فتكون النتيجة رفضاً للاختلاف ونفياً للآخر ونزعاً للشرعية عن مجرد وجوده، وصولاً إلى حد تسويغ اللجوء للعنف من أجل القضاء عليه. إرهاب الإسلاميين ليس إلا نتيجة لمد بعض المبادئ الفكرية البسيطة على استقامتها، فينتهى الإيمان بالله الواحد الأحد إلى القول بالتكفير والحاكمية، وإلى فاشية وإرهاب طالبان وداعش والقاعدة. «الليبراليون» لم يتورطوا فى الإرهاب الفردى، لكن لهم شأناً آخر مع العنف الجماهيرى، والاتجاهات الثورية المنتشرة بينهم ليست سوى المعادل الموضوعى للإرهاب الإسلامى، فالثورة فعل ينفى الواقع ويسعى لتدميره واجتثاثه، وعندما تصبح الثورة مستمرة -كما يطالب الشبان الثوريون- فإنها تصبح فعلاً مستمراً للاجتثاث والتدمير، مثلها مثل الإرهاب، وربما لاحظ الدكتور شكرى أن شباب يناير لا يسمون أنفسهم ليبراليين، ويفضلون على الليبرالية صفات الثوار والثوريين، فهذا عندهم هو الأساس والأكثر أهمية من ليبرالية افترضها الدكتور شكرى فيهم. تحليل عز الدين شكرى للثقافات الثلاث يوحى بأن دور الثقافة الوطنية يتراجع لصالح الأيديولوجيات «الليبرالية» والإسلامية، وإن كنت على العكس أرى أن ثقافة الوطنية المصرية تمر بموجة صعود، وهذا هو المغزى الحقيقى للثلاثين من يونيو، ولانكسار الموجة الإسلامية وانحسار مثيلتها الثورية. المؤكد -كما ذهب عز الدين شكرى- هو أن التنافس بين التيارات الثلاثة سيتواصل، وأن الأيديولوجيات النقيض للوطنية المصرية ستكسب أى أرض تتركها ثقافة الوطنية المصرية بوراً، الأمر الذى يحدث عندما تتراجع الدولة المصرية وتصيبها الهزيمة والكسل والفساد، فالدولة -كما ذهب الدكتور شكرى- هى الحاضنة الأكثر تنظيماً لثقافة الوطنية المصرية، وفى ضعف الدولة وتراجع شرعية نخبتها الحاكمة تراجع لثقافة الوطنية المصرية، وهو ما حدث أمام أعيننا منذ هزيمة يونيو 1967. أما ما يجرى فى بلادنا منذ الثلاثين من يونيو فهو تطور فى الاتجاه المضاد لنصف قرن من التراجع، وفى نجاحه نجاح للدولة ولثقافة الوطنية المصرية.