ومر اليوم المشهود الذى انتظرناه، وانتظرته معنا مصر بفارغ الصبر، هل تخيلتم للحظة وأنتم ذاهبون أو مقاطعون أن التاريخ ينظر إليكم، ويترقب؟! هل تخيلتم أرواح شهدائنا منذ أول ثورة 1919 حتى ثورة يونيو 2013 وهى تقول لكم: أوصيكم بدمائى خيراً.. اتقوا الله فى مصر؟ الكثير من الشباب المقاطعين دفعنى إلى تغيير مقالى وأصبر عن قضية التسرب التعليمى لأكتب عنهم، كم خذلونا، كم خذلوا أصدقاءهم الشهداء، كم خذلوا مصر. كم صفعة تلقاها آباؤهم من وصفهم بألقاب نابية، وهم جالسون أمام شاشات إلكترونية يلعبون بحروف وأرقام، وآباؤهم كانوا يعملون ليل نهار، والأرقام كانت فى حياتهم تستخدم لحساب مدخرات لضمان مستقبل «الأمووور» علشان ييجى «الأمور» يقولك: مقاطع # مش نازل. الحمد لله.. قاطعت.. عملت اللى عليك، أرضيت ضميرك. (ياريت بقى تستمر كدة ومانسمعش حس ولا صوت) فى مجال التمثيل البرلمانى، والمحليات، والنقابات، ومستشارى الوزراء، واحتضان الشباب والتمثيل الحزبى و.. و.. كل أوجه النشاط السياسى، الذى لم يمارسه إلا فى انتخابات رئاسية أو برلمانية أو استفتاء على دستور، حيث إن معظمهم لم يشارك فى انتخابات المحليات، أو اتحادات الطلبة، أو حتى عريف الفصل فى المدرسة! يا ريت لو انتخابات أجلت أو استفتاء تم ترحيل موعده أو أى إجراء تم، لا نراكم تتحدثون عن الشرعية فى شاشات التليفزيون، أو نقرأ تغريدة.. فالمقاطعة أضعفت من قوتكم كثيراً، وأظهرتكم على شكل معارضة سلبية لا معارضة فعالة، ما حدث أنه عندما احتك بعض الشباب بالعمل السياسى (ونزل الملعب) وجد الإعلام وتويتر ومتابعين وتصويراً ولقاءات تليفزيونية، وحملات وتيارات وجبهات، فحدث له تشتت فى الهدف وتخبط فى الوسيلة.. فأصابهم هلع الظهور الإعلامى، والأحاديث، وحسابات وصفحات إلكترونية وفرقعات إخبارية لجلب أكثر عدد من المتابعين وأصاب الكثير منهم الوهم الإعلامى The media illusion فالكثير من (الشوباب) انقسم على بعضهم، ووقفوا ضد البعض الآخر، وفقدوا آداب التنافس والحوار بين بعضهم البعض ما بالك (معانا بيتكلموا إزاى)! واللطيف أيضاً أن جيل الشباب عرف نفسه أنه مواليد أواخر الثمانينات والتسعينات وما بعدها (يعنى كبيرهم 30 سنة.. كمان). مواليد الستينات والسبعينات وأوائل الثمانينات أطلق (الشوباب) عليهم (وأنا منهم) الكتلة الحرجة. الحرجة.. ولماذا هى حرجة؟ يعنى (ليه مش الحساسة) قال لى الشاب: لأنكم من تحرجون المجتمع بآرائكم وتوجهاتكم العقيمة وتتسببون دائماً فى إرباك العملية الديمقراطية! (طبعاً أنا أول ما الشاب قال لى كدة كادت أن تتملكنى نوبة من الضحك.. أنا كل ده؟ من إمتى؟). (والنبى عربى بس لأن المتحدث عنده 24 سنة، خريج 2012، الجامعة الألمانية.. لم يلتحق بالجيش لأنه وحيد على أختين ولا يعمل حتى الآن، منتظر عملاً يعجب به ويقتنع أنه مناسب! يعنى حافظ مش فاهم). أنا ومن قبلى بعشرين عاماً أى مواليد الخمسينات أصبحنا جيل الكتلة الحرجة وعقيم التوجه ونربك الديمقراطية. دعنى أحدثك قليلاً عن نشأة وتعليم وعمل الكتلة الحرجة: الكتلة الحرجة هى التى تعلمت فى المدارس الحكومية أو النموذجية حيث الالتزام والانضباط، ولم يكن هناك إلا فئة متفوقة قليلة من ال GCE أى التعليم ذا الشهادات الأجنبية الدولية التى ظهرت فى الثمانينات. هى الكتلة التى التزمت بزى مدرسى منذ سن 6 سنوات حتى 18 سنة، ونادراً ما غيرت مدرستها فى منتصف التعليم الإلزامى لبعد مسافة أو أسلوب مدرس، فهذه رفاهية لم تمتلكها. هى نفس الكتلة التى التحقت بالجامعات الحكومية المزدحمة واحتكت بطبقات الشعب المختلفة منذ أن كان عمرها 18 سنة. هى نفس الكتلة التى احتكت ورأت الإخوان المسلمين مبكراً فى سنة أولى جامعة، فى انتخابات اتحاد الطلاب والأسر داخل كليات جامعات القاهرة وعين شمس والأزهر وأسيوط والمنيا وبنها.. وكانت الكريمة هى الجامعة الأمريكية ولم يكن بها كل الكليات مثل طب وطب أسنان وحقوق، فلم يلتحق بها كثيرون من هذه الكتلة. فكثيرون منا عرفناهم قبل أن (تكتشفهم حضرتك) بعد ما مشيت من الميدان، عند صندوق الاستفتاء (يعنى كانوا جنبك فى الميدان وانت مش واخد بالك وقلت: سرقوا الثورة.. سرقوا إيه؟ كانوا جنبك، فى كتفك! فى واحد بيوقف جنب حرامى؟ انت اللى ماعرفتش أبعاد تفكيره! كنت فاكره: ثائر مثلك، بعدين قلت عليه إرهابى.. مرة واحدة كدة؟). بينما نحن الحرجين، عرفناهم ورأيناهم فى الجامعات، وتعاملنا معهم يومياً، وعرفنا كم هم منظمون، ويخترقون أى دفعة دراسية بخدمات وملازم ودعم مادى للمحتاجين وكم هم حريصون أن يخترقوك، ولكن لا تقترب منهم أنت إلا بشروطهم. هى نفس الكتلة التى حضرت مجموعات تقوية ومذكرات فى الجامعة وليس درساً خصوصياً فى البيت للحصول على درجات للتفوق، حيث كلمة pass لم تكن تكفى للالتحاق بأى عمل. هى نفس الفئة التى أكملت بحثها العلمى فى مكتبات الجامعة وبين المركز القومى للبحوث وأكاديميات البحث العلمى (حيث الأخ جوجل Google لم يكن متاحاً بعد) وكنا نسهر الليالى فى مكاتب الكمبيوتر والطباعة، فرفاهية الطباعة المنزلية لم تكن متوفرة. وهى نفسها التى تعمل لأكثر من 15 سنة الآن بعد أن حصلت على أعلى الشهادات، حيث كان التحصيل العلمى والكادر الوظيفى وتوفير حياة كريمة بالاعتماد على النفس مبكراً، الشغل الشاغل والهم الأكبر. وهى نفس الكتلة التى شاركت فى ثورتى يناير ويونيو تاركة أطفالاً أو مراهقين أو شباباً فى بداية الطريق فى المنزل، أو توكلت على الله وأخذتهم للشارع ليشاركوا فى كتابة التاريخ، حالمة بمستقبل أفضل لأبنائها، ما زالت تدعو الله أن تعود لهم سالمة، ويعودوا هم بخير، لتكفل لهم حياة كريمة. وهى نفس الكتلة التى تعلم أبناؤها حب الوطن والعمل والديمقراطية، وتصطحب أولادها فى كل مناسبة للتعبير عن ولائهم للوطن وانتمائهم لترابه. أعتقد أن الكتلة الحرجة أيها الشباب، وأنا أفخر بأننى أنتمى إليها قد تربينا وتعلمنا أفضل منكم، تربت على حب الأب والأم واحترامهما، لم نكن نجرؤ أن نصف أهلنا بأقل ما قيل اليوم عن جيل يشعر بالمسئولية لآخر لحظة من عمره. نشأت فى مدارس تحترم المدرس، وتقف له احتراماً عند دخول الفصل، وتختلف مع زملائها بمشاجرة (آخرها زقة أو بوكس) وليس (نروّقه أو نشرحه). تعلمنا قيمة الأشياء وليس ثمنها، كنا إذا كسرنا شيئاً أصلحناه ولا نلقيه.. إذا فقدنا شيئاً نبكيه لا نستبدله، إذا أردنا شراء شىء بحثنا عنه فى الأسواق بعد أن نكون وفرنا كل ثمنه وليس عن طريق التسوق الإلكترونى وبطاقات الائتمان. عرفنا ثقافة المطالعة للمعرفة والقراءة للأدب والأدباء والشعراء، عاشت معنا قصة لإحسان عبدالقدوس أو الحكيم أو إدريس، وعايشنا أغانى عبدالحليم ومنير وعمرو دياب حتى الآن، وليست ثقافة الblog والرابط الlink والمقطع المرئى الyoutube. نحن الكتلة الحرجة، لأننا نتعامل مع من هم أكبر منا باحترام، فهم ما زالوا (كبير وفوق الرأس)، ومن هم أصغر منا سناً فى العمل والأبناء ولابد من احتوائهم (بكرة يعقل ويفهم مصلحته). هناك خلل ما فى نشأة كثير من أفراد جيل بأكمله، يتحملها المجتمع كله، آباء لم يستوعبوا أبناءهم أو ناقشوهم، وفروا لهم حياة كريمة قدر المستطاع، لكن لم يستوعبوهم فى أى حوار ولا ضبطوا لهم إيقاع أفكارهم المزدحمة ما يسمى fine tuning adjustment، متى يتوقف غضبه ليبنى، من يختار ومتى يختاره.. فهو غالباً لم يختر كليته، اختارها له مكتب التنسيق، والعمل لا بد أن يوافق مزاجه وحلمه أو يجلس عاطلاً على المقاهى ويحصل على (قرشين يعيشوه من تقليب مصلحة وده مش عارفة ليه باسمع التعليق ده كتير كأنها مهنة معتمدة ولها نقابة! أو يأخذ مصروف من بابا لحد ما ربنا يفكها من عنده.. وقول يا رب). فالاختيارات السياسية هى أول اختيار حقيقى يواجهه، وواجهه مرة واحدة بطريقة مفاجئة، حتى إنك تراهم فى الحدث وعكسه، مثل ثائر مقدم على هجرة! جيل يتحمل مسئوليته مدارس ونظام تعليمى حديث فاشل، من مدارس ضعيفة، لجامعات صاخبة بكل شىء إلا العلم.. معه أدوات اتصال، تفتحه على عالم كبير جداً فى قبضة يده، ظن أنه يعرف الدنيا كيف تسير، وهو إن فرغت بطارية هاتفه، ارتبك أو شلت حركته ويلتزم لسانه بسؤال واحد: معاك شاحن...؟ لا أريد أن أظلم جيل الشباب من هم فوق العشرين عاماً إلى أواخر الثلاثين، ولكن الكثير منهم مندفع فى اتجاه، ويريد أن يأخذ كل الأمة معه على هواه ومن وجهة نظره، بغض النظر إن كانت هذه الوجهة قابلة للتطبيق أم لا applicable or not وللأسف الشديد، ستأتى نتيجة هذه الانتخابات معتمدة على المرأة، والناضجين فكرياً من الشباب وهم نادرون للأسف، والكتلة الحرجة، وكبار السن والمغتربين وذوى الاحتياجات الخاصة. ولكن علينا عند تخطيط أى تنمية أو برنامج، أن نضع الشباب فى مقدمة أولوياتنا ونحل مشاكلهم من تعليم وبطالة وإسكان. عفواً إن كنت خرجت عن سياق اهتمامى ولكن ما شاهدناه ظاهرة تحتاج الفهم والتحليل، لأننا نواجه جيلاً من المفترض أن يقود الوطن خلال سنوات قليلة، وهو لم يستطع منذ يومين قيادة نفسه.. لأمتار قصيرة. وللحديث بقية