«اقتصاد اليوم التالى» تعبير تداوله الاقتصاديون العرب فى جمعيتهم العمومية الأخيرة المنعقدة فى القاهرة فى آخر شعاع للعام المنصرم 2013، وهو تعبير دال وموحٍ يستشرف الأفق القريب لاقتصاد «ما بعد العاصفة» التى اجتاحت أقطاراً مهمة فى النظام العربى، كان نصيب مصر منها وحدها ثورتين مزلزلتين فى أقل من ثلاث سنوات، ثورة 25 يناير 2011 وثورة 30 يونيو 2013. واقتصاد اليوم التالى هو تعبير مجازى عن المهمة العاجلة التى تنتظر الرئيس المقبل وهو يتحسس طريقه إلى قصر الاتحادية. قد يبدو التعبير وكأنه «برنامج للتعافى الاقتصادى» لا يقبل التأجيل أو الانتظار، وهو بالفعل كذلك. فلم يعد بمقدور حاكم أتى بعد ثورتين كبريين ارتفع فيهما سقف الطموحات الشعبية إلى عنان السماء أن يطالب شعباً أنهكته سنوات الحرمان والاعتصار بمزيد من الصبر وشد الأحزمة على البطون، وإلا كان يدعوه مجدداً لثورة ثالثة أخرى لا تبقى -هذه المرة- ولا تذر. وإنجاز «برنامج للتعافى الاقتصادى» هو شرط مسبق للانطلاق نحو سياسات جديدة وطويلة الأجل للنمو السريع تختصر المسافات، وتقترب بنا من اقتصاد نامٍ مستقر يتقاسم الناس عائده بالتساوى، بينما الإخفاق فى برنامج التعافى سوف يضع العصا فى «عجلة» المشروعات القومية العملاقة التى بشرت بها برامج المرشحين للرئاسة، التى تهدف إلى إعادة هندسة مصر جيو - اقتصادياً كأداة لتحقيق التنمية المستدامة من خلال استغلال الفضاء الصحراوى الفسيح بإمكاناته الهائلة غير المستغلة وإعادة توزيع السكان على الحيز غير المعمور وتحقيق العدالة الجهوية بين الأقاليم المصرية وتنمية المناطق المهمشة فى سيناء وحلايب وشلاتين والنوبة والصعيد، بما يغير لقرون طويلة مقبلة خارطة مصر الجغرافية والديمجرافية والإدارية. وفى اقتصاد اليوم التالى يواجه الحاكم المقبل -بإرادة الشعب- إلى قصر الاتحادية أسئلة (معضلات)، والإجابة عنها هى التى تخلق حالة الرضا التى تصنع الاستقرار الغائب، وتكبح جماح فوضى عصية -حتى الآن- على اللجم: ■ هل يمكن للنظام الجديد توظيف الزخم الثورى المنفلت توظيفاً إيجابياً فى تحقيق نهوض اقتصادى شامل، وفى تعبئة القوى الكامنة والموارد المهدرة. وفى اختصار خطوات الانتقال نحو الإعمار وتشغيل دولاب الاقتصاد المتوقف؟ وفى هذا السياق قد يكون مناسباً أن تنخرط التحالفات الثورية وتنظيماتها الشبابية فى «برنامج التعافى الاقتصادى»، وأن تتحول إلى لجان شعبية للإنتاج والخدمات وتحريك المصانع المتوقفة، على غرار اللجان الشعبية لتأمين الأحياء والسكان التى سدت الفراغ الأمنى الموحش الناجم عن الانسحاب الدراماتيكى لقوى الشرطة والأمن بعد 28 يناير 2011. ■ كيف يمكن للاقتصاد المصرى أن يتجاوز أزمته الراهنة والملحة والضاغطة والقصيرة المدى (الاحتجاجات النقابية والفئوية والمطالب العمالية، وهى مشروعة) من دون أن تعطل هذه الأزمات صيرورة التراكم التنموى عن طريق سياسات، يتلاشى فيها التناقض القائم بين اعتبارات الكفاءة والعدالة، ويتحقق التلازم بين معدلات نمو مرتفعة ومعدلات توزيع عادل لعائد هذا النمو؟! والحقيقة أن حزمة من التدابير المالية العاجلة جاهزة لأن تصادر إنفاقاً غير مبرر فى الحكومة والمحليات والسفارات تنوء به دولة فقيرة، ومكافآت سخية مقطوعة لا تخضع لعرف أو قانون أو قواعد تذهب للمحاسيب والمؤيدين والمصفقين من المستشارين، تصلهم بعلم الوصول إلى «الكومبوندات» السكنية الفارهة المحمية بكلاب الحراسة والأسوار المكهربة، فضلاً عن وقف الحيل المالية التى أبدعتها عهود الفساد كفكرة «الصناديق الخاصة»، تلك الدجاجات التى تبيض ذهباً فى جيوب «الخاصة». وربما لهذا سميت بالخاصة. وكما عرف التاريخ الاقتصادى أثرياء الحرب وأثرياء الانفتاح وأثرياء المعونات الأجنبية عرفت مصر فى سنواتها الأخيرة «أثرياء الصناديق الخاصة». هذه المليارات وغيرها من موارد ضائعة أو مهدرة أو منهوبة كافية لأن تقيل الاقتصاد من عثرته، إذا ما صبت مواردها الطائلة فى «صندوق وطنى للإغاثة» تذهب عوائده لإنصاف الفقراء والعاطلين الذين شبعوا وعوداً، ولم يعد فى قوس صبرهم منزع بعد اليوم. وبهذه التدابير لن يسمع الفقراء جعجعة، كما قال المعرى، بل يرون طحناً! ■ ويخطئ من يظن أن اقتصاد اليوم التالى سوف يكتفى بسياسات غوث المنكوبين بسياسات صندوق النقد الدولى والحكومات التى دانت له بالسمع والطاعة، ولكنه يطل من علٍ على الفرص البازغة التى تلوح فى المستقبل، ويرصد التهديدات والمخاطر التى كشرت عن أنيابها، تهديدات نقص المياه والحروب المتوقعة حولها، والطاقة وتراجع مصادرها التقليدية، والفقر وتداعياته الإنسانية والسياسية. والسؤال: كيف نتفادى السيناريوهات الأردأ التى تعيد إنتاج التخلف وتجديد الأزمات، وتقود إلى دولة مهيأة فقط للتكيف مع شروط العولمة ومقتضياتها، ومنصاعة لضغوط منظماتها ومؤسساتها، لا دولة قوية منحازة اجتماعياً تمتلك قرارها التنموى المستقل؟ وهل ما زال بمقدورنا -مرة أخرى- أن نهلل لنمو ردىء، ولو كان كبيراً، وصفته الأممالمتحدة بأنه نمو تكاليفه تفوق منافعه، لا يوفر وظائف، يثرى الأغنياء على حساب الفقراء، لا يلازمه توسع فى الحريات والديمقراطية، نمو بلا جذور يسحق الهوية الثقافية للشعب، وهو نمو بلا مستقبل تجور فيه الأجيال الحالية على الموارد التى تحتاجها الأجيال المقبلة، وهو أخيراً نمو متحيز جهوياً يخدم المركز والحواضر على حساب الهوامش والأطراف؟ ■ وقد نتساءل أخيراً عن الخلفية النظرية التى تُحاكم بمعاييرها هذه البرامج والسياسات الاقتصادية الجديدة. أمامنا فى التاريخ الحديث تجارب ملهمة فى اقتصاد السوق الاجتماعى فى ألمانيا واقتصاد السوق الاشتراكى فى الصين وفيتنام. هل نترك قوى السوق تدهس الفقراء تحت سنابك خيولها الوحشية، أم أن دوراً جديداً للدولة يوشك أن يولد، دولة تنموية عادلة تقف حكماً بين السوق والمجتمع؟!