هناك من يدّعون أن القرآن ليس كلام الله، وإنما هو من كلام الملائكة، الذين صاغوه إلى اللغة العربية، ودليلهم على ذلك، وجود ضمائر الجمع، فى السياق القرآنى، عند الحديث عن الذات الإلهية، ككلمات: (أنزلنا - كتبنا)!! يقولون: يستحيل أن يُحدّث الله الناس عن نفسه بضمير الجمع (أنزلنا) أو (نحن) أو (إنّا)، لأنه منزه عن استخدام أسلوب التفخيم والتعظيم، وإنما ضمير الجمع هذا يمكن نسبته للملائكة!! ولكن لماذا يقولون بهذا؟! لأنهم يسارعون إلى اتباع كل بدعة، حتى ولو كان ذلك على حساب تحريف «النص القرآنى»، ثم تراهم يدّعون أنهم من أهل اللسان العربى!! إن الملائكة (رسل الله)، هكذا وصفهم الله تعالى، ومهمتهم البلاغ عن الله، دون تدخل فى هذا البلاغ، ويستحيل أن يفوضهم الله فى الكلام نيابة عنه، وفى صياغة هذا البلاغ، ولا يخبرنا بذلك، وهو القائل فى سورة الشورى: «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا (وَحْيًا) أَوْ مِنْ (وَرَاءِ حِجَابٍ) أَوْ يُرْسِلَ (رَسُولًا) فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» [51]. فكلام الله مع أنبيائه يكون عن طريق: الوحى (الإلهام)، أو من وراء حجاب (كما كلم الله موسى، عليه السلام)، أو بإرسال ملك رسول (جبريل، عليه السلام). فهذه هى طرق كلام الله مع البشر، فهو فى الأصل (كلام الله)، ثم هناك آليات لتوصيل هذا الكلام إلى البشر، منها الملائكة. وهذا ما بيّنه الله فى أكثر من موضع، منها قوله تعالى: «حَتَّى يَسْمَعَ (كَلامَ اللَّهِ) ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ» - «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا (كَلامَ اللَّهِ)».. فإذا كان ما يدّعونه صحيحاً، لقال تعالى: حتى يسمع (كلام الملائكة)، الذين فوضتُهم فى ذلك، ولقال: يريدون أن يبدلوا (كلام الملائكة)!! إن من عطاءات نصوص «الآية القرآنية»، تنوع أسلوبها البلاغى، فقد يأتى سياق الآية بكلام مجمل، ثم يُفصّل فى موضع آخر. وقد يتحرك السياق بين ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب، وذلك للفت النظر إلى دلالات بلاغية يكشف عنها (المتدبّرون) للسياق القرآنى. وقد يأتى بالجمع فى موضع، والإفراد فى موضع آخر.. إلى آخره. ولبيان ذلك أضرب بعض الأمثلة: مثال (1): يقول الله تعالى فى سورة الأعراف: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ (إِنِّي) رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ (وَرَسُولِهِ) النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ». فى الجملة الأولى جاء بضمير المتكلم (أنا)، فى قوله: «(إِنّى) رَسُولُ اللّهِ». وفى الجملة الثانية جاء بضمير الغائب (هو)، فى قوله: «فَآمِنُواْ بِاللّهِ (وَرَسُولِهِ)». فلماذا لم يستمر ضمير المتكلم (أنا)، فى الجملة الثانية، ولم يقل «فآمنوا بالله (وبى)»؟! لماذا استخدم ضمير الغائب (هو)، فقال (وَرَسُولِهِ)؟! هل لأن (النبى) كان غائباً عن المشهد؟! بالقطع لا، فرسول الله حاضر، يتحرك بين الناس!! مثال (2): يقول الله تعالى فى سورة فاطر: «وَ(اللّهُ) الّذِيَ أَرْسَلَ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً (فَسُقْنَاهُ) إِلَىَ بَلَدٍ مّيّتٍ (فَأَحْيَيْنَا) بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا». فى الجملة الأولى جاء بضمير الغيبة (هو)، فى قوله: «و(َاللّهُ) الّذِى أَرْسَل»، وفى الجملة الثانية جاء بضمير المتكلم (نحن)، فى قوله: «(فَسُقْنَاهُ) إِلَىَ بَلَدٍ مّيّتٍ (فَأَحْيَيْنَا)». فلماذا لم يستمر ضمير الغيبة (هو)، فى الجملة الثانية، بحيث تكون (فساقه)، (فأحيا)؟! لماذا استخدم فى الجملة الثانية ضمير المتكلم (نحن)، فقال (فَسُقْنَاهُ)، (فَأَحْيَيْنَا)»؟! هل لأن (الله) كان غائباً عن المشهد فى الجملة الأولى، ثم حضر فى الثانية؟! بالقطع لا، فالله تعالى حاضر، فى كل زمان ومكان، فى الوقت نفسه، وحىّ قيّوم!! وإذا تدبرنا سياقات الآيات التى ورد فيها ضمير المتكلم (أنا)، نجد أن الله تعالى يخاطب فيها أنبياءه، باستثناء موضع واحد، يخاطب الله فيه الناس، لبيان أن ميزان الحساب فى الآخرة حق، وأن الله لا يظلم أحداً: «مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا (أَنَا) بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ». «الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ»