الكاتب كان ممن استبشروا علناً عند إعلان خريطة المستقبل فى 3 يوليو بأن رأس الدولة المُعيّن لقيادة المرحلة الانتقالية الثانية قاضٍ دستورى جليل. ولكم خاب الظن فى بعض قرارات المستشار عدلى منصور، وحتى فى تلك التى كنا نرجو منه أن يتخذها بعدالة القاضى وإنصافه. ويعنينى فى هذا المقال قرار واحد من كُثر. فيقينى أنه عندما يُكتب تاريخ هذه المرحلة الانتقالية الثانية فعلى الأرجح سيتضمن أن إحدى أسوأ سقطات السلطة المؤقتة كانت إصدار هذا القانون وتطبيقه بالبطش الأمنى بواسطة أجهزة أمن لم تتب عن أساليب القمع التى قامت الثورة الشعبية ضدها. وعلى الرغم من ذلك، فقد أصر السيد الرئيس المؤقت على الإبقاء على قانون التظاهر رافضاً طلب المجلس القومى لحقوق الإنسان بالرجوع عنه أو تعديله، مصراً على أنه «دستورى». والغريب أن يصدر عنه هذا التصميم فى الوقت الذى بدأ فيه الببلاوى، رئيس الوزارة التى وضعت القانون، يراجع نفسه الآن وهو خارج السلطة ويعترف بأن القانون، بعد النظر فى خبرة تطبيقه، به شوائب وبحاجة لتعديل، خاصة عقوباته التى اعتبرها «مشددة». أصل اعتراضى أن الحكومة كذبت عندما ادعت أن القانون لا يقيّد حق التظاهر. فهو يقيّد حق التظاهر كما يقيد كثيراً من تبعات التظاهر مثل الاعتصام والإضراب السلمى، المضمونين فى المواثيق الدولية التى يوجب الدستور احترامها. والكاتب ليس خبيراً فى القانون الدستورى. ولكن الدساتير-لأهميتها البالغة فى البنية القانونية للمجتمع- ينبغى ألا تكون كهنوتاً مستغلقاً. وما دامت النصوص صريحة فالاستدلال المنطقى منها يتعين أن يكون مباحاً ومتاحاً لمن يقدر عليه. تنص المادة 73 من الدستور على أن: «للمواطنين حق تنظيم الاجتماعات العامة، والمواكب والتظاهرات، وجميع أشكال الاحتجاجات السلمية، غير حاملين سلاحاً من أى نوع، بإخطار على النحو الذى ينظمه القانون». لاحظ بمجرد الإخطار وليس التصريح المسبق! وفى ظنى المتواضع أن القانون يخالف نص الدستور. فالدستور، كما يبين من نص المادة المعنية، يحمى الحق فى التظاهر من دون أى قيود إلا السلمية. وليس أولى من الحكومة المؤقتة، ورئيسها القاضى الدستورى، باحترام نصوص الدستور الذى قامت على وضعه. ومصداقاً لهذا الزعم، فقد أحال واحد من قضاة مصر هذا القانون سيئ الصيت إلى المحكمة الدستورية، فلتحفظ الحكومة المؤقتة القليل الباقى من كرامتها وقد قاربت مهمتها على الانتهاء، وتلغى القانون، أو على الأقل تعدل أسوأ مواده. أضف إلى ذلك أن تطبيق القانون تمخض عن انتهاكات جسيمة للحقوق الشخصية والمدنية المكفولة فى الدستور. إذ تدل الخبرة وشهادات الشهود وتقارير المجلس القومى لحقوق الإنسان على أن الممارسة الفعلية لتطبيق القانون، بالقبضة الأمنية الغليظة، قد أفضت إلى انتهاكات جسيمة لحقوق أشخاص عديدين ضمنتهما المادتان 55 و56 من الدستور الذى قامت على إعداده السلطة المؤقتة الراهنة، واعتُبرتا فى لجنة الخمسين، وبحق، فتحاً فى ضمانات الدستور للحقوق الشخصية. فإن لم تحترم السلطة المؤقتة الدستور، فلمَ يحترمه أى كان؟ تنص هاتان المادتان، بالترتيب، على الآتى: «كل من يُقبض عليه، أو يُحبس، أو تقيد حريته تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، ولا يجوز تعذيبه، ولا ترهيبه، ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنياً أو معنوياً، ولا يكون حجزه، أو حبسه إلا فى أماكن مخصصة لذلك لائقة إنسانياً وصحياً، وتلتزم الدولة بتوفير وسائل الإتاحة للأشخاص ذوى الإعاقة. ومخالفة شىء من ذلك جريمة يعاقَب مرتكبها وفقاً للقانون». و«السجن دار إصلاح وتأهيل. وتخضع السجون وأماكن الاحتجاز للإشراف القضائى، ويحظر فيها كل ما ينافى كرامة الإنسان، أو يعرض صحته للخطر». فى تطبيق القانون بالعصا الأمنية الغليظة بدت الحكومة كجسد بأذرع غليظة من دون عقل ذكى ومدبّر يحركها. فأصبحنا نسمع عن إلقاء القبض على فتيات لرفع شعار، أياً كان، وعلى صبى لحمله أداة مدرسية عليها شعار ما. وقد ترتب على كل ذلك أن عادت الإدانات لإساءة أجهزة الأمن معاملة المحتجزين والمساجين وذويهم تنهال على السلطة المؤقتة فى هذه المرحلة الانتقالية الثانية، من مجتمع حقوق الإنسان فى الخارج والداخل على حد سواء. وبلغ بعضها حداً فاضحاً مثل تقييد شابة مسجونة بالأصفاد بعد وضعها لمولودتها مباشرة. ولا يفيد هنا نفى المسئولين عن الأمن، التجميلى والبعيد عن الحقيقة على الأرجح، والذى يُذكّر بالأيام الأخيرة من نظام الحكم القمعى الباطش الذى اندلعت الثورة الشعبية ضده حين كان المسئولون المناظرون حينئذ يتبجحون باحترام أجهزة الأمن لحقوق الإنسان وهم يعذبون ويقتلون أبناء الشعب. ويدعو للانزعاج بوجه خاص تقاعس بعض وكلاء النائب العام عن ضمان الحقوق الدستورية للمتهمين والمحتجزين وحمايتهم من تعديات أجهزة الأمن. وتسىء أجهزة الأمن معاملة المتظاهرين ومن يلقى القبض عليهم أثناء الاحتجاز أو تمضية العقوبة، فيما يُعد ردة إلى أسوأ ممارسات البطش الأمنى قبل الثورة، حتى اضطر المجلس القومى لحقوق الإنسان إلى انتقاد هذه الممارسات علناً، ناهيك عن أنها تمثل مخالفات صريحة لنصوص الدستور الحامية للحريات والحقوق. ولا يسلم ذوو المحتجزين والمحبوسين من سوء المعاملة. ولن يجدى فتيلاً أن تنكر الداخلية، فقد كانت هذه عادتها قبل الثورة أيضاً. ولا ينهض تبريراً للإبقاء على هذا القانون المخالف لدستور البلاد أن فصيلاً من الشعب يمارس إرهاباً وتكديراً لأمن باقى المواطنين، فلهؤلاء الضالين أيضاً حقوق يضمنها الدستور، كما قد طال عسف قانون التظاهر نشطاء من جميع التيارات السياسية.