جزء كبير من الفشل التنموى فى مصر المحروسة يعود إلى غياب الرؤية الاستراتيجية، والرؤية الاستراتيجية -بحسب التعريف- تعنى السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمصر فى العشرين عاماً القادمة. وهذه الرؤية الاستراتيجية لا ينبغى -كما أكدنا أكثر من مرة قبل ثورة 25 يناير- أن ينفرد بها حزب سياسى واحد، سواء كان اسمه الحزب الوطنى الديمقراطى سابقاً، أو حزب الحرية والعدالة حالياً. ذلك أن وضع هذه الرؤية عمل مجتمعى بامتياز، يقتضى حشد كافة الجهود العلمية ممثلة فى مراكز الأبحاث والجامعات وما تزخر به من خبراء على أعلى مستوى، وكذلك حشد كافة القوى السياسية سواء كانت أحزاباً سياسية أو مؤسسات للمجتمع المدنى، لمناقشة هذه الرؤية والاتفاق عليها ثم اعتبارها الاستراتيجية الأساسية التى ستُرسم على أساسها خطط التنمية الخمسية فى العشرين عاماً القادمة. وغياب هذه الرؤية الاستراتيجية هو الذى أدى إلى فشل التنمية فى مصر، بالرغم مما يقال عن ارتفاع معدل التنمية إلى 9% قبل الثورة، وهو مقياس مزيف لا يقيس بموضوعية الأحوال الحياتية للمصريين. ولذلك أثرنا قبل الثورة، فى مقالات نقدية عنيفة نشرناها فى جريدة الأهرام المسائى ابتداء من عام 2009 وحتى عام 2011، السؤال الرئيسى: ماذا يفيدنا إذا وصل معدل الدخل القومى إلى 9% إذا كان المصريون ازدادوا فقراً، وزادت الفجوة الطبقية بين من يملكون ومن لا يملكون. وهى هذه الفجوة التى عبرت عنها -حين سئلت فى برنامج تليفزيونى أذيع قبل الثورة- كيف تصف باعتبارك عالماً اجتماعياً المشهد الاجتماعى فى مصر؟ قلت فى عبارة واحدة: منتجعات هنا وعشوائيات هناك! وكنت أعنى أن القلة المترفة تعيش فى منتجعات تحيطها الأسوار من كل مكان حتى لا يقترب منها الدهماء من أبناء الشعب الفقراء، فى حين أن الملايين من المصريين يعيشون فى العشوائيات التى تفتقر إلى أبسط قواعد الحياة الآدمية! وليس معنى ذلك أنه لم تُبذل جهود من قبل لوضع رؤية استراتيجية لمصر. وأكتفى هنا بأن أشير إلى أن مركز الدراسات المستقبلية الذى كان يرأسه إلى وقت قريب الدكتور محمد منصور أستاذ العلوم السياسية فى جامعة أسيوط، وهو تابع لمجلس دعم القرار بمجلس الوزراء، أشرف على مشروع كبير كان موضوعه «مصر: 20 - 30» وهو دراسة استشرافية كاملة شارك فى وضعها مجموعة متميزة من الخبراء المصريين فى مختلف المجالات. وقد صدر عن هذا المركز الرائد عدد من النشرات الجزئية عن هذا المشروع الطموح، إلا أن العمل توقف لأسباب بيروقراطية، للأسف الشديد، بعد فترة من الزمن. غير أن ميزة هذا المشروع أنه ارتاد أرضاً بكراً وحرثها وزرع فيها البذور، ويمكن إحياؤه من جديد، والمشروع العملاق الثانى هو الذى أشرف عليه الدكتور فتحى البرادعى وزير الإسكان السابق، والذى صدر عنه فى نوفمبر 2011 أربعة مجلدات كاملة وعنوانه «المخطط الاستراتيجى القومى للتنمية المعمارية»، ويستحق أن نتحدث عنه بإفاضة فى مرة قادمة.