من سمات مرحلة التحول الديمقراطى التى دخلت فيها مصر منذ ثورة يناير أنها تعيد صياغة علاقة السلطة بالجماهير، وكذلك نظرة الجماهير للسلطة؛ بما يحول مصر فى نهاية المطاف إلى دولة تفرز كل سلطاتها بالانتخاب الحر المباشر وتتجدد فيها العلاقة التعاقدية بين النخب الحاكمة والجماهير عبر نجاح الأولى فى تلبية مطالب الثانية، مع خضوعها كذلك للمساءلة من ممثلى الشعب فى البرلمان، وهو تحد جديد فى دولة قديمة كمصر التى عرفت عبر تاريخها نمطين لعلاقة السلطة بالجماهير. النمط الأول هو نمط الدولة التسلطية الذى عززه وجود مكون جغرافى كنهر النيل، فبحسب ما أشار الفيلسوف البريطانى برتراند راسل فى كتابه (السلطة والفرد)، فإن النيل قد عزز تماسك مصر منذ أقدم الأزمنة لأن حكومة تسيطر فقط على أعالى النيل يمكنها القضاء على خصوبة مصر الدنيا. فتماسك الدولة هنا قد ارتبط بتسلط النظام السياسى وقدرته على البطش بمعارضيه؛ وهو ما بلور مفهوم المستبد الشرقى فى مصر شأنها فى ذلك شأن باقى الدول التى تعتمد على مياه الأنهار فى الرى. وقد أدى هذا إلى حدوث تحول عميق فى مفهوم الدولة التى تشكلت وفقا للنموذج الذى يطلق عليه عالم الاجتماع الألمانى الشهير ماكس فيبر (الدولة الكاريزمية) الذى يتمركز حول شخص الزعيم الملهم ذى الطبيعة الكاريزمية الطاغية، وهو النموذج الذى حول العلاقة بين تلك الدولة التسلطية والجماهير إلى علاقة أسطورية وأبوية. ومن ثم فإن بزوغ زعامة كبرى كجمال عبدالناصر فى مصر لم يبلور فى النهاية مفهوم الدولة الخادمة، أو المعيلة، التى تعمل لصالح مواطنيها برغم ما قدمه الرجل من خدمات اجتماعية كبرى للمصريين، نظرا لغياب إطار مبدئى تشكل السلطة التنفيذية فيه عبر آلية الانتخاب الحر ومحاسبة تلك السلطة أمام البرلمان. أما النمط الثانى، والذى يمثل استثناء تاريخيا فيما يتعلق بطبيعة الدولة المصرية ونظامها السياسى، فهو النمط الديمقراطى الليبرالى الذى تبلور فى مصر خلال الفترة ما بين اندلاع ثورة 1919 واندلاع ثورة 1952؛ فتماسك الجماعة الوطنية المصرية وقتها قد تمحور حول مطلب سياسى واحد هو جلاء المحتل البريطانى، وحدث التعبير عن ذلك عبر ثورة شعبية كبرى أفرزت فيما بعد دستورا وبرلمانات منتخبة، إلا أن هذا النمط الديمقراطى الليبرالى لم يفلح هو الآخر فى بلورة مفهوم الدولة الخادمة؛ فالتركيبة الطبقية للنخبة الحاكمة وقتها حالت بينها وبين إحداث نقلة اجتماعية وتنموية شاملة تراعى البعد الاجتماعى وتخدم الطبقات الفقيرة والمعدمة التى شكلت السواد الأعظم من المصريين خلال تلك الفترة. مغزى ذلك أن نجاحنا كمصريين فى اجتياز هذا التحدى التاريخى يتطلب إنهاء الجدلية التاريخية بين مفهومى الحرية والعدل الاجتماعى، وهو ما حدث على المستوى النظرى خلال ثورة يناير التى عبرت بجلاء عن مضامين نموذج الدولة الخادمة (يختار فيها المواطن سلطاته بحرية تامة، وتؤدى هذه السلطات دورها الرعائى والاجتماعى على أكمل وجه) عندما زاوجت بعبقرية فريدة بين كلا المفهومين. لكن النجاح فى إنجاز نفس التغيير على أرض الواقع هو الأكثر صعوبة وتعقيدا، نظرا للارتباك الرهيب فى مسار الفترة الانتقالية، التى كان يتوقع أن يتم خلالها الانتهاء من بناء مؤسسات سياسية منتخبة وقادرة على تمرير مفاهيم وأهداف الثورة عبر قنواتها الدستورية، إلا أن ما حدث هو العكس، فهشاشة البناء المؤسسى التى ولدها ارتباك المسار الدستورى والقانونى وحالة القطيعة الممنهجة والمصنوعة التى حدثت ما بين شرعية الميدان وشرعية البرلمان أدتا فى النهاية إلى عجزنا التام عن اجتياز هذا التحدى، وخصوصا مع استمرار النخبة السياسية -وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين- فى ممارسة نفس أخطائها التى تعرقل عملية تحول مصر إلى دولة طبيعية، مثل توظيف البرلمان كأداة للصراع السياسى وانحرافه عن دوره الأساسى فى رقابة الحكومة والتشريع بما يخدم مصالح الجماهير، والدخول فى صدام مع مؤسسات الإعلام التى مارست دورها فى الرقابة الشعبية والمجتمعية على الدولة طوال عهد مبارك، والتقاعس عن إجراء تغييرات جذرية فى البنية الاجتماعية والاقتصادية بما يحقق مطالب الفقراء والمهمشين؛ وهو ما يعنى نهايةً أن تحول مصر إلى دولة خادمة قد أصبح مرهونا بتخلص النخبة السياسية من أمراضها المزمنة بعد أن أدت الجماهير مهمتها التاريخية وخلعت نظام مبارك المستبد.